يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوا عنها إلا وهم ـ يعنون أنفسهم ـ أفضل منهم في الدّين فضلا ، وأعلم بالله علما. فأراد الله أن يعرّفهم أنهم قد أخطأوا في ظنونهم واعتقاداتهم ، فخلق آدم وعلّمه الأسماء كلّها ، ثم عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها ، فأمر آدم أن ينبئهم بها ، وعرّفهم فضله في العلم عليهم.
ثمّ أخرج من صلب آدم ذرّيّته منهم الأنبياء والرسل والخيار من عباد الله ، أفضلهم محمّد ثم آل محمّد ، ومن الخيار الفاضلين منهم أصحاب محمد وخيار أمّة محمد ، وعرّف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة إذا احتملوا ما حمّلوه من الأثقال ، وقاسموا ما هم فيه من تعرّض أعوان الشّياطين ومجاهدة النفوس ، واحتمال أذى ثقل العيال ، والاجتهاد في طلب الحلال ، ومعاناة مخاطرة الخوف من الأعداء من لصوص مخوّفين ، ومن سلاطين جور قاهرين ، وصعوبة المسالك في المضائق والمخاوف ، والأجزاع (١) والجبال والتلال ، لتحصيل أقوات الأنفس والعيال ، من الطّيب الحلال.
عرّفهم الله عزوجل أنّ خيار المؤمنين يحتملون هذه البلايا ، ويتخلّصون منها ، ويحاربون الشياطين ويهزمونهم ، ويجاهدون أنفسهم بدفعها عن شهواتها ، ويغلبونها مع ما ركب فيهم من شهوة الفحولة وحبّ اللّباس والطّعام والعزّة والرّئاسة ، والفخر والخيلاء ، ومقاساة العناء والبلاء من إبليس لعنه الله وعفاريته ، وخواطرهم وإغوائهم واستهزائهم ، ودفع ما يكابدونه من ألم الصبر على سماع الطّعن من أعداء الله ، وسماع الملاهي ، والشّتم لأولياء الله ، ومع ما يقاسونه في أسفارهم لطلب أقواتهم ، والهرب من أعداء دينهم ، والطلب لمن يأملون معاملته من مخالفيهم في دينهم.
قال الله عزوجل : يا ملائكتي ، وأنتم من جميع ذلك بمعزل ، لا
__________________
(١) الأجزاع : جمع جزع ، وهو الوادي إذا قطعته عرضا. «الصحاح ـ جزع ـ ج ٣ ، ص ١١٩٥».