المناظرين بقية السّلف الصالحين ، وكان شيخ الطريقة وأحفظ من على وجه الأرض بالحقيقة ، وأفصح أهل زمانه على الإطلاق وأعظمهم نورانية (١) بالاتفاق ، أعماله أغلبها قلبية ، وعلومه أكثرها وهبية ، لا يتكلّم في المحبة إلّا رأيته ذا شوق شديد ، ولا يذكر بالله إلّا ألان قلوبا في القساوة كالحديد ، تخال من حضر مجلسه من القوم بسماع كلامه سكارى ، وقلوبهم في شهود جماله عند تنزل التجليّات عليه والهة حيارى ، لا يرتاب ناظره مع سماع كلامه أنه من أرباب القلوب ، وأن المتنزل عليه من العلم اللدني قريب عهد برّبه بارز من حضرة علّام الغيوب ، كيف لا وقد تربى في حجر الجلال وارتضع من ثدي الكمال ، واتصل نسبه بالذروة الصّديقية والشجرة المحمدية الحسنية ، ولعمري أن الناظر إليه إذ ذاك يشهد طلعته عند ذلك نورا محضا بل ذاته وملابسه كلها كذلك ، وذلك من أثر التجليّات الإلهية عليه ، وكان مع ما هو عليه من الإشتغال بالتّصنيف والإفتاء لا يزال يتكّلم على طريق الإملاء ، وكان يجلس بالمسجد الحرام ، وبالمسجد النّبوي ، وفي المسجد الأقصى ، وفي الجامع الأزهر بمصر ، وناهيك بهذه المواضع التي كان يجلس فيها ، وكان نفع الله به كأنما يغترف من بحر.
وحكى : أنه كان لا يملي القرآن والحديث حتى يطالع المحل الذي يتكلّم عليه كعادة غيره ، قال : فبينما أنا أطالع في الكراس ، وأنا قاصد إلى الجامع إذ نوديت في سّري : يا أبا الحسن أما القرآن والحديث فإلينا وأما غيره فإليك ، فمن ذلك العهد إلى تاريخه ما طلعت لاملاء (٢) عليهما فلي على ذلك تسع وثلاثين سنة ، أو قال بضع وعشرين وإنما أجي إلى محل الإلقاء ، ولا أدري ما يلقى على لساني ، فيجري الله تعالى عليه نحو ما يسمعونه ، وله تصانيف كثيرة لا تحصى من جملتها : تفسير القرآن العظيم ، وإسمه تسهيل السبيل في فهم معاني التنزيل ، وشرح العباب الفقهي
__________________
(١) في الأصل نورية وأصلحناه من النور السافر.
(٢) الأصل : الأملي.