والطائفة المنعوتة بالوزيرية إلى الآن منسوبة إليه ، يعني الوزير يعقوب بن يوسف بن كلّس أبو الفرج. كان يهوديا من أهل بغداد ، فخرج منها إلى بلاد الشام ونزل بمدينة الرملة ، وأقام بها فصار فيها وكيلا للتجّار بها ، واجتمع في قبله مال عجز عن أدائه ، ففرّ إلى مصر في أيّام كافور الإخشيديّ ، فتعلّق بخدمته. ووثب إليه بالمتجر ، فباع إليه أمتعة أحيل بثمنها على ضياع مصر ، فكثر لذلك تردّده على الريف ، وعرف أخبار القرى ؛ وكان صاحب حيل ودهاء ومكر ومعرفة مع ذكاء مفرط وفطنة ، فمهر في معرفة الضياع حتّى كان إذا سئل عن أمر غلالها ومبلغ ارتفاعها وسائر أحوالها الظاهرة والباطنة أتى من ذلك بالغرض ، فكثرت أمواله واتسعت أحواله ، وأعجب به كافور لما خبر فيه من الفطنة وحسن السياسة فقال : لو كان هذا مسلما لصلح أن يكون وزيرا. فلمّا بلغه هذا عن كافور تاقت نفسه إلى الولاية وأحضر من علّمه شرائع الإسلام سرا ، فلمّا كان في شعبان سنة ستّ وخمسين وثلثمائة دخل إلى الجامع بمصر وصلّى صلاة الصبح ، وركب إلى كافور ومعه محمد بن عبد الله بن الخازن في خلق كثير ، فخلع عليه كافور ، ونزل إلى داره ومعه جمع كثير ، وركب إليه أهل الدولة يهنئونه ، ولم يتأخّر عن الحضور إليه أحد ، فغصّ بمكانه الوزير أبو الفضل جعفر (١) بن الفرات ، وقلق بسببه ، وأخذ في التدبير عليه ، ونصب الحبائل له حتّى خافه يعقوب ، فخرج من مصر فارّا منه يريد بلاد المغرب في شوّال سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وقد مات كافور ، فلحق بالمعزّ لدين الله أبي تميم معدّ ، فوقع منه موقعا حسنا ، وشاهد منه معرفة وتدبيرا ، فلم يزل في خدمته حتّى قدم من المغرب إلى القاهرة في شهر رمضان سنة اثنين وستّين وثلثمائة ، فقلّده في رابع عشر المحرّم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة الخراج وجميع وجوه الأموال والحسبة والسواحل والأعشار والجوالي (٢) والأحباس والمواريث والشرطتين وجميع ما يضاف إلى ذلك وما يطرأ في مصر وسائر الأعمال. وأشرك معه في ذلك كله عسلوج بن الحسن ، وكتب لهما سجلا بذلك قرىء في يوم الجمعة على منبر جامع أحمد بن طولون فقبضت أيدي سائر العمّال والمتضمّنين ، وجلس يعقوب وعسلوج في دار الإمارة في جامع أحمد بن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأموال ، وحضر الناس للقبالات ، وطالبا بالبقايا من الأموال ممّا على الناس من المالكين والمتقبّلين والعمّال ، واستقصيا في الطلب ، ونظرا في المظالم ، فتوفّرت الأموال وزيد في الضياع ، وتزايد الناس وتكاشفوا ، أو امتنعا أن يأخذا إلا دينارا معزيا (٣) ، فاتضّع الدينار الراضي (٤) وانحطّ ونقص من صرفه أكثر من ربع
__________________
(١) في شذرات الذهب ٣ / ١٣٥ : هو جعفر بن الفضل بن محمد بن موسى بن الفرات أبو الفضل ابن حنزابة البغدادي وزير الديار المصرية ... توفي سنة ٣٩١ ه ودفن بدار في المدينة المنوّرة قرب قبر الرسول صلىاللهعليهوسلم.
(٢) الجوالي : الغرباء الذين هجروا بلادهم ونزلوا مصر ـ وتطلق على أهل الذمّة. / المنجد /
(٣) نسبة إلى المعزّ لدين الله الفاطمي.
(٤) نسبة إلى الخليفة العباسي الراضي بالله.