جمادى الآخرة سنة تسعين وسبعمائة ، وهذه الدار باقية إلى اليوم تسكنها الأمراء.
دار البقر : هذه الدار خارج القاهرة فيما بين قلعة الجبل وبركة الفيل ، بالخط الذي يقال له اليوم حدرة البقر ، كانت دارا للأبقار التي برسم السواقي السلطانية ، ومنشرا للزبل ، وفيه ساقية ، ثم إن الملك الناصر محمد بن قلاون أنشأها دارا واصطبلا وغرس بها عدّة أشجار ، وتولى عمارتها القاضي كريم الدين عبد الكريم الكبير ، فبلغ المصروف على عمارتها ألف ألف درهم ، وعرفت بالأمير طقتمر الدمشقيّ ، ثم عرفت بدار الأمير طاش تمر حمص أخضر ، وهذه الدار باقية إلى وقتنا هذا ينزلها أمراء الدولة.
قصر بكتمر الساقي : هذا القصر من أعظم مساكن مصر وأجلّها قدرا ، وأحسنها بنيانا ، وموضعه تجاه الكبش على بركة الفيل ، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون لسكن أجلّ أمراء دولته ، الأمير بكتمر الساقي ، وأدخل فيه أرض الميدان التي أنشأها الملك العادل كتبغا ، وقصد أن يأخذ قطعة من بركة الفيل ليتسع بها الإصطبل الذي للأمير بكتمر بجوار هذا القصر ، فبعث إلى قاضي القضاة شمس الدين الحريريّ الحنفيّ ليحكم باستبدالها على قاعدة مذهبه ، فامتنع من ذلك تنزها وتورّعا ، واجتمع بالسلطان وحدّثه في ذلك ، فلما رأى كثرة ميل السلطان إلى أخذ الأرض نهض من المجلس مغضبا وصار إلى منزله ، فأرسل القاضي كريم الدين الكبير ناظر الخواص إلى سراج الدين الحنفيّ عن أمر السلطان وقلده قضاء مصر منفردا عن القاهرة ، فحكم باستبدال الأرض في غرة رجب سنة سبع عشرة وسبعمائة ، فلم يلبث سوى مدّة شهرين ومات في أوّل شهر رمضان ، فاستدعى السلطان قاضي القضاة شمس الدين الحريريّ وأعاده إلى ولايته ، وكمّل القصر والإصطبل على هيئة قلّ ما رأت الأعين مثلها ، بلغت النفقة على العمارة في كل يوم مبلغ ألف وخمسمائة درهم فضة مع جاه العمل ، لأنّ العجل التي تحمل الحجارة من عند السلطان ، والحجارة أيضا من عند السلطان ، والفعلة في العمارة أهل السجون المقيدون من المحابيس ، وقدّر لو لم يكن في هذه العمارة جاه ولا سخرة لكان مصروفها في كل يوم مبلغ ثلاثة آلاف درهم فضة ، وأقاموا في عمارته مدّة عشرة أشهر ، فتجاوزت النفقة على عمارته مبلغ ألف ألف درهم فضة ، عنها زيادة على خمسين ألف دينار ، سوى ما حمل وسوى من سخر في العمل ، وهو بنحو ذلك.
فلما تمت عمارته سكنه الأمير بكتمر الساقي ، وكان له في إصطبله هذا مائة سطل نحاس لمائة سائس ، كل سائس على ستة أرؤس خيل ، سوى ما كان له في الحشارات والنواحي من الخيل ، وكان من المغرب يغلق باب إصطبله فلا يصير لأحد به حس ، ولمّا تزوّج أنوك بن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بابنة الأمير بكتمر الساقي ، في سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة ، خرج شوارها من هذا القصر ، وكان عدّة الحمالين ثمانمائة حمّال.