ولما قدم الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك إلى دمشق ، ولّاه الحجوبية ، ودخل في خدمته إلى مصر وهو حاجب ، ثم أخرجه ثانيا نائبا إلى غزة في سنة عشر وسبعمائة ، فأقام بها قليلا وطلبه وولّاه الوزارة بالديار المصرية عوضا عن الصاحب فخر الدين ابن الخليليّ ، في رمضان سنة عشر ، فباشر الوزارة إلى أن قبض عليه مستهل ربيع الأوّل سنة خمس عشرة ، واعتقل مدّة سنة ونصف وأخذ كير من ماله ، ثم أفرج عنه وأخرج إلى صفد نائبا في سنة ست عشرة ، وأنعم عليه بمائة ألف درهم ، عنها يومئذ خمسة آلاف دينار ، فأقام بها عشرة أشهر وطلب إلى مصر فصار من الأمراء المشهورة ، فإذا تكلم السلطان في المشورة لا يردّ عليه غيره ، لما عنده من المعرفة والخبرة ، وتزوّج بابنة الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك ، وأولاده الذين ذكرنا منها ، وسرق له مال كثير من خزانته بهذه الدار ، ادّعى أنه مبلغ مائتي ألف درهم ، وكان في الباطن على ما قيل سبعمائة ألف درهم ، فما جسر يتفوّه خوفا من السلطان ، وكان إذ ذاك والي القاهرة الأمير سيف الدين قدادار ، المنسوب إليه القنطرة على الخليج ، فتقدّم أمر السلطان إليه بتتبع من سرق المال ، فدسّ إليه الأمير بكتمر الساقي ، والوزير مغلطاي الجمالي ، والقاضي فخر الدين ناظر الجيش في السرّ ، أن يتهاون في أمر السرقة نكاية لبكتمر ، وأخذوا يحتجون لكل من اتهم ويقولون للسلطان لعن الله ساعة هذه العملة ، كل يوم يموت من الناس تحت المقارع عدّة ، وإلى متى يقتل المتهم الذي لا ذنب له ، فلما طار الأمر شكا بكتمر إلى السلطان في دار العدل ، فأحضر الوالي وسبّه السلطان ، فقال يا خوند : اللصوص الذين أمسكتهم وعاقبتهم أقرّوا أن سيف الدين بخشي خزنداره ، اتفق معهم على أخذ المال وجماعة من إلزامه الذين في بابه. فقال السلطان للجمالي الوزير : احضر هؤلاء المذكورين وعاقبهم ، فأخذ بخشي وعصره وكان عزيزا عند بكتمر ، قد زوجه بابنته ، وهو يثق بعقله ودينه وأمانته ، فشق ذلك عليه واغتم غما شديدا مات منه ، فجاءة فيما بين الظهر إلى العصر من يومه سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، وكان خبيرا بالأمور بصيرا بالحوادث طويل الروح في الكلام لا يمل من تطويله ، ولو قعد في الحكم الواحد بين الأمير واليهودي ثلاثة أيام ، ولا يلحقه من ذلك سآمة البتة ، مع معرفة تامّة وخبرة بالسياسة لم ير مثله في حق أصحابه ، لكثرة تذكرهم في غيبتهم ، والفكر في مصالحهم وتفقد أحوالهم ، ومن جفاه منهم عتب عليه ، وكان سمحا بجاهه بخيلا بماله إلى الغاية ، ساقط الهمة في ذلك ، وله متاجر وأملاك وسعادة لا تكاد تنحصر ، ومع ذلك فله قدور يكريها لصلاقي الفول والحمص وغير ذلك من العدد والآلات ، ويماحك على أجرها مماحكة يستحى من ذكرها ، وأنشأ عدّة دور واقتنى كثيرا من البساتين ، وولي من بعده ابنه الأمير جمال الدين عبد الله الإمرة ، وكان حاجبا ، ولأبيه في سيرة البخل والحرص الشديد تابعا ومقلدا ، وتولى أمره الحاج غير مرّة ، وخرج في سنة ست وثمانين وسبعمائة من القاهرة لولاية كشف الجسور بالغربية ، فورد عليه كتاب