المجاور لقناطر السباع الآن ، أنشأ زريبة في قبليّ الجامع الطيبرسيّ ، وحفر لأجل بناء هذه الزريبة البركة المعروفة الآن بالبركة الناصرية ، حتى استعمل طينها في البناء ، وأنشأ فوق هذه الزريبة دار وكالة وربعين عظيمين ، جعل أحدهما وقفا على الخانقاه التي أنشأها بناحية سرياقوس ، وأنعم بالآخر على الأمير بكتمر الساقي ، فأنشأ الأمير بكتمر بجواره حمّامين ، إحداهما برسم الرجال والأخرى برسم النساء ، فكثر بناء الناس فيما هنالك حتى اتصلت العمارة من بحريّ الجامع الطيبرسيّ بزريبة قوصون ، وصار هناك أزقة وشوارع ودروب ومساكن ، من وراء المناظر المطلة على النيل ، تتصل بالخليج. وأكثر الناس من البناء في طريق الميدان السلطانيّ ، فصارت العمائر منتظمة من قناطر السباع إلى الميدان ، من جهاته كلها ، وتنافس الناس في تلك الأماكن وتغالوا في أجرها.
وعمر المكين إبراهيم بن قزوينة ناظر الجيش في قبليّ زريبة السلطان ، حيث كان بستان الخشاب ، دارا جليلة. وعمر أيضا صلاح الدين الكحال ، والصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام ، وعدّة من الكتاب ، فقيل لهذه الخطة منشأة الكتاب ، وأنشأ فيها الصاحب أمين الدين خانقاه بجوار داره ، وعمر أيضا كريم الدين الصغير ، حتى اتصلت العمارة بمنشأة المهراني ، فصار ساحل النيل من خط دير الطين قبليّ مدينة مصر إلى منية الشيرج بحريّ القاهرة ، مسافة لا تقصر عن أزيد من نصف بريد بكثير ، كلها منتظمة بالمناظر العظيمة ، والمساكن الجليلة ، والجوامع ، والمساجد ، والخوانك ، والحمامات ، وغيرها من البساتين ، لا تجد فيما بين ذلك خرابا البتة ، وانتظمت العمارة من وراء الدور المطلة على النيل حتى أشرفت على الخليج.
فبلغ هذا البرّ الغربيّ من وفور العمارة وكثرة الناس وتنافسهم في الإقبال على اللذات وتأنقهم في الانهماك في المسرّات ما لا يمكن وصفه ، ولا يتأتى شرحه ، حتى إذا بلغ الكتاب أجله وحدثت المحن من سنة ست وثمانمائة ، وتقلص ماء النيل عن البرّ الشرقيّ ، وكثرت حاجات الناس وضروراتهم ، وتساهل قضاة المسلمين في الاستبدال في الأوقاف وبيع نقضها ، اشترى شخص الربعين والحمامين ودار الوكالة التي ذكرت على زريبة السلطان بجوار الجامع الطيبرسيّ ، في سنة سبع وثمانمائة ، وهدم ذلك كله وباع أنقاضه ، وحفر الأساسات واستخرج ما فيها من الحجر وعمله جيرا ، فنال من ذلك ربحا كثيرا ، وتتابع الهدم في شاطىء النيل وباع الناس أنقاض الدور ، فرغب في شرائها الأمراء والأعيان وطلاب الفوائد من العامة ، حتى زال جميع ما هنالك من الدور العظيمة والمناظر الجليلة ، وصار الساحل من منشأة المهرانيّ إلى قريب من بولاق كيمانا موحشة ، وخرائب مقفرة ، كأن لم تكن مغنى صبابات ، وموطن أفراح ، وملعب أتراب ، ومرتع غزلان تفتن النساك هناك ، وتعيد الحليم سفيها سنة الله في الذين خلوا من قبل ، وإني إذا تذكرت ما صارت إليه أنشد قول عبد الله بن المعتز :