ورفع ووضع ، وحج سبعا وعشرين حجة ، أنفق في كل حجة منها مائة وخمسين ألف دينار ، وكان تكين أمير مصر يشيعه إذا خرج للحج ويتلقاه إذا قدم ، وكان يحمل إلى الحجاز جميع ما يحتاج إليه ، ويفرّق بالحرمين الذهب والفضة والثياب والحلوى والطيب والحبوب ، ولا يفارق أهل الحجاز إلّا وقد أغناهم. وقيل مرّة وهو بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، ما بات في هذه الليلة أحد بمكة والمدينة وأعمالهما إلّا وهو شبعان من طعام أبي بكر الماردانيّ.
ولما قدم الأمير محمد بن طفج الإخشيد إلى مصر استتر منه ، فإنه كان منعه من دخول مصر ، وجمع العساكر لقتاله ، فاجتمع له زيادة على ثلاثين ألف مقاتل ، وحارب بهم بعد موت تكين أمير مصر ، ومرّت به خطوب لكثرة فتن مصر إذ ذاك ، وأحرقت دوره ودور أهله ومجاوريه ، وأخذت أمواله واستتر فقبض على خليفته وعماله ، فكتب إلى بغداد يسأل إمارة مصر ، وكتب محمد بن تكين بالقدس يسأل ذلك ، فعاد الجواب بإمارة ابن تكين ، وأن يكون الماردانيّ يدبر أمر مصر ويولي من شاء ، فظهر عند ذلك من الاستتار وأمر ونهى ودبر أمر البلد ، وصار الجيش بأسره يغدو إلى بابه ، فأنفق في جماعة ، واصطنع قوما ، وقتل عدّة من أصحاب ابن تكين ، وكان محمد بن تكين بالقدس ، وأمر مصر كله للماردانيّ بمفرده ومعه أحمد بن كيغلغ ، وقد قدم من بغداد بولاية ابن تكين على مصر ، وولاية أبي بكر الماردانيّ تدبير الأمور ، فاستمال أبو بكر أحمد بن كيغلغ حتى صار معه على ابن تكين وحاربه ، وكان من أمره ما كان إلى أن قدمت عساكر الإخشيد ، فقام أبو بكر لمحاربتهم ، ومنع الإخشيد من مصر ، فكان الإخشيد غالبا له ودخل البلد فاستتر منه أبو بكر إلى أن دلّ عليه فأخذ وسلمه إلى الفضل بن جعفر بن الفرات ، فلما صار إلى ابن الفرات قال له : إيش هذا الاستيحاش والتستر ، وأنت تعلم أن الحج قد أظلّ ويحتاج لإقامة الحج ، فقال به أبو بكر : إن كان إليّ فخمسة عشر ألف دينار ، فقال ابن الفرات : أيش ، خمسة عشر ألف دينار؟ قال ما عندي غير هذا ، فقال ابن الفرات : بهذا ضربت وجه السلطان بالسيف ، ومنعت أمير البلد من الدخول. ثم صاح يا شاذن خذه إليك فأقيم وأدخل إلى بيت ، وكان يومئذ صائما ، فامتنع من تناول الطعام والشراب ولزم تلاوة القرآن والصلاة طول يومه وليلته ، وأصبح فامتنع ابن الفرات من الأكل إجلالا له ، فلما كان وقت الفطر من الليلة الثانية ، امتنع أبو بكر من الفطر كما امتنع في الليلة الأولى ، فامتنع ابن الفرات أيضا من الأكل وقال : لا آكل أبدا أو يأكل أبو بكر ، فلما بلغ ذلك أبا بكر أكل ، فأخذ ابن الفرات في مصادرته وقبض على ضياعه التي بالشام ومصر ، وتتبع أسبابه. ثم خرج به معه إلى الشام وعاد به إلى مصر ، ثم خرج به ثانيا إلى الشام ، فمات الفضل بن الفرات بالرملة ، ورجع أبو بكر إلى مصر فردّ إليه الإخشيد أمور مصر كلها ، وخلع على ابنه ، وتقلد السيف ، ولبس المنطقة ، ولبس أبو بكر الدراعة تنزها ، ثم تنكر عليه الإخشيد وقبضه في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ، وجعله في دار وأعدّ له فيها