وبعث به وفي نفسه حزازة من أخذه منه ، وخدم البدوية وخدم جميع من يلوذ بها ، حتى قالت : هذا الرجل أخجلنا بكثرة هداياه وتحفه ، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا ، فلما بلغه ذلك عنها قال : ما لي حاجة بعد الدعاء لله تعالى بحفظ مكانها وطول حياتها ، غير ردّ الجرن الذي أخذ من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمهم إلى مكانه ، فلما سمعت هذا عنه تعجبت منه وأمرت بردّ الجرن إليه ، فقيل له قد وصلت إلى حدّ أن خيرتك البدوية في جميع المطالب ، فنزلت همتك إلى قطعة حجر. فقال : أنا أعرف بنفسي ، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الجرن من مكانه ، وقد بلغها الله أملها ، وبقيت البدوية متعلقة الخاطر بابن عمّ لها ربيت معه يعرف بابن ميّاح ، فكتبت إليه وهي بقصر الخليفة الآمر :
يا ابن ميّاح إليك المشتكى |
|
مالك من بعدكم قد ملك |
كنت في حيى مرأ مطلقا |
|
نائلا ما شئت منكم مدركا |
فأنا الآن بقصر مؤصد |
|
لا أرى إلّا حبيسا ممسكا |
كم تثنينا بأغصان اللوا |
|
حيث لا نخشى علينا دركا |
وتلاعبنا بر ملات الحمى |
|
حيثما شاء طليق سلكا |
فأجابها :
بنت عمي والتي غذيتها |
|
بالهوى حتّى علا واحتنكا |
بحت بالشكوى وعندي ضعفها |
|
لو غدا ينفع منها المشتكى |
ما لك الأمر إليه يشتكى |
|
هالك وهو الذي قد هلكا |
شأن داود غدا في عصرنا |
|
مبديا بالتيه ما قد ملكا |
فبلغت الآمر فقال : لولا أنه أساء الأدب في البيت الرابع لرددتها إلى حيه وزوّجتها به.
قال القرطبيّ وللناس في طلب ابن ميّاح واختفائه أخبار تطور ، وكان من عرب طيء في عصر الخليفة الآمر طراد بن مهلهل ، فلما بلغه قضية الآمر مع العالية البدوية قال :
ألا أبلغوا الآمر المصطفى |
|
مقال طراد ونعم المقال |
قطعت الأليفين عن إلفة |
|
بها سمر الحيّ بين الرجال |
كذا كان آباؤك الأقدمون |
|
سألت فقل لي جواب السؤال |
فلما بلغ الآمر شعره قال : جواب السؤال قطع لسانه على فضوله ، وأمر بطلبه في أحياء العرب ففرّ ولم يقدر علي ، فقالت العرب : ما أخسر صفقة طراد ، باع أبيات الحيّ بثلاثة أبيات ، ولم يزل الآمر يتردّد إلى الهودج بالروضة للنزهة فيه ، إلى أن ركب من القصر بالقاهرة يريد الهودج في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، فلما