حسن ـ وكان كثير المال متّسع الحال له عدّة بلاد ومواشي وحاشية وديوان (١) مفرد ـ فسعى في نقض ذلك بأن أوقع الفتنة بين الطائفة الجيوشية والطائفة الريحانية ، وكانت الريحانية قويّة الشوكة مهابة مخوفة الجانب ، فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين ، وصاح الجند : يا حسن يا منصور ، يا للحسينية ؛ والتقى الفريقان فقتل بينهما ما يزيد على خمسة آلاف نفس ، فكانت هذه الوقعة أوّل مصائب الدولة الفاطمية من فقد رجالها ونقص عساكرها ، فلم يبق من الطائفة الريحانية إلا من نجا بنفسه من ناحية المقس (٢) ، وألقى نفسه في بحر النيل.
واستظهر الأمير حسن وقام بالأمر ، وانضمّ إليه أوباش الناس ودعّارهم ، ففرّق فيهم الزرد وسمّاهم صبيان الزرد ، وجعلهم خاصّته ، فاحتفوا به وصاروا لا يفارقونه ، فإن ركب أحاطوا به ، وإن نزل لازموا داره ، فقامت قيامة الناس منهم. وشرع في تتبّع الأكابر ، فقبض على ابن العسّاف وقتله ، وقصد أباه الخليفة الحافظ وأخاه حيدرة بالضرر حتّى خافا منه وتغيّبا ، فجدّ في طلب أخيه حيدرة ، وهتك بأوباشه الذين اختارهم حرمة القصر ، وخرق ناموسه ، وسلّطهم يفتّشون القصر في طلب الخليفة الحافظ وابنه حيدرة ، واشتدّ بأسهم ، وحسّنوا له كلّ رذيلة ، وجرّوه على الأذى ، فلم يجد الحافظ بدّا من مداراة حسن وتلافي أمره عساه ينصلح ، وكتب سجلا بولايته العهد وأرسله إليه فقرىء على الناس ، فما زاده ذلك إلا جرأة عليه وإفسادا له ، وشدّد في التضييق على أبيه وأخذ بأنفاسه. فبعث حينئذ الخليفة بالأستاذ ابن إسعاف إلى بلاد الصعيد ليجمع من يقدر عليه من الريحانيّة ، فمضى واستصرخ الناس لنصرة الخليفة على ولده حسن ، وجمع أمما لا يحصيها إلا الله ، وسار بهم ، فبلغ ذلك حسنا فزجّ عسكر اللقاء إسعاف ، فالتقيا وكانت بينهما وقعة هبّت فيها ريح سوداء على عسكر إسعاف حتّى هزمتهم ، وركبهم عسكر حسن فلم ينج منهم إلا القليل ، وغرق أكثرهم في البحر وأخذ إسعاف أسيرا ، فحمل إلى القاهرة على جمل وفي رأسه طرطور (٣) لبد أحمر. فلمّا وصل بين القصرين رشق بالنشّاب حتّى هلك ، ورمي من القصر الغربي بأستاذ آخر ، فقتل ، وقتل الأمير شرف الدين. فاشتدّ ذلك على الحافظ وخاف على نفسه ؛ فكتب ورقة ـ وكاد ابنه بأن ألقى إليه تلك الورقة ـ وفيها : يا ولدي ؛ أنت على كلّ حال ولدي ، ولو عمل كلّ منّا لصاحبه ما يكره الآخر ما أراد أن يصيبه مكروه ، ولا يحملني قلبي ، وقد انتهى الأمر إلى أمراء الدولة وهم فلان وفلان ، وقد شدّدت وطأتك عليهم وخافوك وهم معوّلون على قتلك ، فخذ حذرك يا ولدي.
فعند ما وقف حسن على الورقة غضب ولم يتأنّ ، وبعث إلى أولئك ، فلمّا صاروا إليه
__________________
(١) في النجوم الزاهرة ١٤ / ٢٠٣ : ديوان المفرد موكل بالنفقة على المماليك السلطانية.
(٢) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٦ : المقس كانت ضيعة تعرف بأمّ دنين ، وإنما سميت المقس لأنّ العشّار وهو المكّاس كان فيها يستخرج الأموال ، فقيل له : المكس ثم المقس.
(٣) في المنجد : الطرطور : القلنسوة الدقيقة الطويلة.