الرجوع لعادة جنكز خان والاقتداء بحكم الياسة ، فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم ، والأخذ على يد قويهم ، وانصاف الضعيف منه على مقتضى ما في الياسة ، وجعلوا إليه مع ذلك النظر في قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف في أمور الإقطاعات ، لينفذ ما استقرّت عليه أوضاع الديوان وقواعد الحساب ، وكانت من أجلّ القواعد وأفضلها حتى تحكم القبط في الأموال وخراج الأراضي ، فشرّعوا في الديوان ما لم يأذن به الله تعالى ، ليصير لهم ذلك سبيلا إلى أكل مال الله تعالى بغير حقه ، وكان مع ذلك يحتاج الحاجب إلى مراجعة النائب أو السلطان في معظم الأمور.
هذا وستر الحياء يومئذ مسدول ، وظلّ العدل صاف ، وجناب الشريعة محترم ، وناموس الحشمة مهاب ، فلا يكاد أحد أن يزيغ عن الحق ، ولا يخرج عن قضية الحياء ، إن لم يكن له وازع من دين ، كان له ناه من عقل. ثم تقلص ظلّ العدل ، وسفرت أوجه الفجور ، وكشّر الجور أنيابه ، وقلت المبالاة ، وذهب الحياء والحشمة من الناس ، حتى فعل من شاء ما شاء ، وتعدّت منذ عهد المحن التي كانت في سنة ست وثمانمائة الحجاب ، وهتكوا الحرمة ، وتحكموا بالجور تحكما خفي معه نور الهدى ، وتسلطوا على الناس مقتا من الله لأهل مصر وعقوبة لهم بما كسبت أيديهم ، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
وكان أوّل ما حكم الحجاب في الدولة التركية بين الناس بمصر ، أن السلطان الملك الكامل شعبان بن الناصر محمد بن قلاون ، استدعى الأمير شمس الدين آق سنقر الناصريّ ، نائب طرابلس ، ليوليه نيابة السلطنة بديار مصر عوضا عن الأمير سيف الدين بيغوا ، أميرا حاجبا كبيرا ، يحكم بين الناس ، فخلع عليه في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبعمائة ، فحكم بين الناس كما كان نائب السلطنة يحكم ، وجلس بين يديه موقعان من موقعي السلطان لمكاتبة الولاة بالأعمال ونحوهم ، فاستمرّ ذلك. ثم رسم في جمادى الآخرة منها أن يكون الأمير رسلان يصل حاجبا مع بيغوا يحكم بالقاهرة على عادة الحجاب ، فلما انقضت دولة الكامل بأخيه الملك المظفر حاجي بن محمد ، استقرّ الأمير سيف الدين أرقطاي نائب السلطنة ، فعاد أمر الحجاب إلى العادة القديمة ، إلى أن كانت ولاية الأمير سيف الدين جرجي الحجابة في أيام السلطان الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاون ، فرسم له أن يتحدّث في أرباب الديون ويفصلهم من غرمائهم بأحكام السياسة ، ولم تكن عادة الحجاب فيما تقدّم أن يحكموا في الأمور الشرعية ، وكان سبب ذلك ووقوف تجار العجم للسلطان بدار العدل في أثناء سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة ، وذكروا أنهم ما خرجوا من بلادهم إلّا لكثرة ما ظلمهم التتار وجاروا عليهم ، وأن التجار بالقاهرة اشتروا منهم عدّة بضائع وأكلوا أثمانها ، ثم هم يثبتون على يد القاضي الحنفيّ أعسارهم ، وهم في سجنه ، وقد أفلس بعضهم فرسم للأمير جرجي بإخراج غرمائهم من السجن وخلاص ما في قبلهم للتجار ،