السودان ، فقتل فيها أحد مقدّميهم ، فانكفّ بأسهم قليلا ، وعظمت حملة الغزّ عليهم ، فانكسروا إلى باب الذهب ، ثمّ إلى باب الزهومة (١) ، وقتل حينئذ عدّة من الأمراء المصريين وكثير ممّن عداهم.
وكان العاضد في هذه الوقعة يشرف من المنظرة ، فلمّا رأى أهل القصر كسرة السودان وعساكر مصر رموا على الغزّ من أعلى القصر بالنشّاب والحجارة حتّى أنكوا فيهم ، وكفّوهم عن القتال ، وكادوا ينهزمون ؛ فأمر حينئذ صلاح الدين النفّاطين بإحراق المنظرة ، فأحضر شمس الدولة النفّاطين وأخذوا في تطييب قارورة النفط وصوّبوا بها على المنظرة التي فيها العاضد ، فخاف العاضد على نفسه ، وفتح باب المنظرة زعيم الخلافة أحد الأستاذين ، وقال بصوت عال : أمير المؤمنين يسلّم على شمس الدولة ويقول : دونكم والعبيد الكلاب ، أخرجوهم من بلادكم.
فلمّا سمع السودان ذلك ضعفت قلوبهم وتخاذلوا ، فحمل عليهم الغزّ فانكسروا ، وركب القوم أقفيتهم إلى أن وصلوا إلى السيوفيين (٢) ، فقتل منهم كثير وأسر منهم كثير وامتنعوا هناك على الغزّ بمكان ، فأحرق عليهم. وكان في دار الأرمن التي كانت قريبا من بين القصرين خلق عظيم من الأرمن كلّهم رماة لهم جار (٣) في الدولة يجري عليهم ، فعند ما قرب منهم الغزّ رموهم عن يد واحدة حتّى امتنعوا عن أن يسيروا إلى العبيد ، فأحرق شمس الدولة دارهم حتّى هلكوا حرقا وقتلا ، ومرّوا إلى العبيد ، فصاروا كلّما دخلوا مكانا أحرق عليهم وقتلوا فيه إلى أن وصلوا إلى باب زويلة ، فإذا هو مغلوق ، فحصروا هناك واستمرّ فيهم القتل مدّة يومين. ثمّ بلغهم أنّ صلاح الدين أحرق المنصورة (٤) التي كانت أعظم حاراتهم ، وأخذت عليهم أفواه السكك (٥) ، فأيقنوا أنّهم قد أخذوا لا محالة ، فصاحوا الأمان ، فأمنوا ـ وذلك يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة ـ وفتح لهم باب زويلة ، فخرجوا إلى الجيزة ، فعدا عليهم شمس الدولة في العسكر وقد قووا بأموال المهزومين وأسلحتهم ، وحكّموا فيهم السيف حتى لم يبق منهم إلا الشريد ؛ وتلاشى من هذه الواقعة أمر العاضد.
وكان من غرائب الاتّفاقات أن الدولة الفاطمية كان الذي افتتح لها بلاد مصر وبنى القاهرة جوهر القائد ؛ والذي كان سببا في إزالة الدولة وخراب القاهرة جوهر المنعوت بمؤتمن الخلافة هذا. ثمّ لما استبدّ صلاح الدين يوسف بسلطنة الديار المصريّة بعد موت
__________________
(١) في النجوم الزاهرة : ٤ / ٣٧ : وهما من أبواب القصر الغربية.
(٢) في كشف الممالك : ١١٥ : السيفية مماليك الأمراء الذين توفوا أو قتلوا وأسقطت عنهم الإمارة.
(٣) جاري : جراية وهي المرتّب.
(٤) في الكامل لابن الأثير ٩ / ١٠٣ : وهي محلّتهم.
(٥) السكك : الطرق.