وقد صنّف العلماء رحمهم الله في كشف ما غَرُب من ألفاظه واستَبْهم ، وبيانِ ما اعتاص من أغراضه واستعجم ، كُتَباً تَنوَّقوا في تصنيفها ، وتَجَوَّدوا ، واحتاطوا ولم يتجوَّزوُا (١) ، وعكفوا الهمم على ذلك وحَرِصُوا ، واغتنموا الاقتدار عليه وافْتَرصوا ، حتى أحكموا ما شاءُوا وأتْرَصوا (٢) ، وما منهم إلا من بطش فيما انتحى بباع بسيط ، ولم يزلَّ عن موقف الصواب مقدار فَسِيط (٣) ، ولم يَدَع المتقدمُ للمتأخر خَصاصةً (٤) يَسْتظهِر به على سدِّها ، ولا أَنْشُوطة (٥) يستنهِضه لِشَدِّها ، ولكن لا يكاد يجد بدًّا من نَبغَ في فن من العلم ، وصبغ به يده ، وعانى فيه وُكْدَه (٦) وكَدَّه ، مِنَ اسْتِحباب أن يكون له فيه أثر يُكْسبه في الناس لسانَ الصدق وجمال الذكر ، ويخزنُ له عند الله جزيل الأجر وسَنِيَّ الذُّخر.
وفي صَوْب هذين الغرضين ذهبتُ عند صَنْعة هذا الكتاب غير آلٍ جُهداً ، ولا مقصّر عن مَدَى ، فيما يعود لِمُقْتَبِسِه بالنُّصْحِ ، ويرجع إلى الراغبين فيه بالنُّجح ، من اقتضاب ترتيب سَلِمت فيه كلمات الأحاديث نسقاً ونَضَداً ، ولم تذهب بَدَداً ، ولا أيدي سَبَا ، وطَرائِقَ قِدَدَا ، ومن اعتماد فَسْرِ مُوضِح (٧) ، وكشف مُفْصح ، اطلعت به على حَاقِّ المعنى (٨) وفَصِّ الحقيقة (٩) اطلاعاً مُؤَدَّاه طمأنينة النفس ، وثَلج الصدر ، مع الاشتقاق غير المستكره ، والتصريف غير المتعسّف ، والإعراب المحقق البَصْري ، الناظر في نص سيبويه وتقرير الفَسَويّ (١٠) ، فأيَّة نفس كريمة ، ونَسمة زاكية ، نوّر الله قلبها بالإِيمان والإِيقان ، مرّت على هذا التبيان والإِتقان ، فلا يذهبن عليها أن تدعو لي بأن يجعله اللهُ في موازيني ثِقَلاً ورُجحَاناً ، ويُثيبني عليه رَوحاً وريحاناً. والله عزّ سلطانه المرغوبُ إليه في أن يُوزِعنا الشكر على طَوْله وفضله ، وألا نُقْدم إلا على أعمال الخير خالصةً لوجهه ومن أجله ؛ إنه المنعم المنّان.
__________________
(١) أي لم يتساهلوا.
(٢) أترص الشيء : سواه وعدله.
(٣) الفسيط قلامة الظفر.
(٤) الخصاصة : الخلل.
(٥) الأنشوطة : عقدة يسهل حلها.
(٦) الوكد : السعي والجهد.
(٧) الفَسْرِ الموضح : البيان الموضح.
(٨) حاق المعنى : صادق المعنى.
(٩) فص الحقيقة : مفصل الحقيقة.
(١٠) الفسوي هو أبو علي الفارسي ، نسبة إلى فسا قرية في بلاد فارس.