وكان يحيى بن زكريّا يلبس المسوح حتى نقب جلدده تركاً للتنعّم والاستراحة ، فسألته أمّه ليس جبّة من الصوف ففعل ، فأوحى الله إليه : يا يحيى! [ عليّ ] الدنيا فنزع وعاد إلى ما كان عليه. (١)
وكان نبيّنا صلىاللهعليهوآله المقصود من خلقة الدنيا من شدّة زهده لم يشبع هو وأهل بيته مدّة عمره غدوة الا وجاعوا عشية وبالعكس ، وإنّ بعض زوجاته بكت يوماً ممّا رأت به من الجوع وقالت له : ألا تستطعم الله فيطعمك؟ فقال صلىاللهعليهوآله : « والذي نفسي بيده لو سألته أن يجري معي جبال الدنيا [ ذهباً ] لأجراها حيث شئت من الأرض ، ولكني اخترت جوع الدنيا على شعبها ، وفقرها على غنائها ، وحزنها على فرحها ، إن الدنيا لاينبغي لمحمد وآل محمد صلىاللهعليهوآله ، إنّ الله لم يرض لأولي العزم من الرسل الا الصبر على مكروه الدنيا والصبر عن محبوبها ... الحديث ». (٢)
وأخبار زهد أميرالمؤمنين عليهالسلام أشهر من أن يذكر ، وكذا من بعده من الأوصياء الماضين ، والسلف الصالحين ، فإنّ حكايات زهدهم مشهورة ، وفي السير وغيرها مسطورة.
ثم إنّ للزهد باعتبار نفسه درجات ثلاث :
أولاها : الزهد في الدنيا مع الميل إليها بالمجاهدة والرياضة ، وهو التزهّدو.
وثانيها (٣) : الزهد فيها بطوع وسهولة لاستحقاره لها ، بالاضافة إلى لذّات الآخرة ونعيمها ، كالذي يترك درهماً لألف درهم.
وثالثها : الزهد فيها لكراهته لها وعداوته إيّاها ، بعلمه بكونها أخباثاً قذرة وسموماً مهلكة فيهرب منها ويبغضها ، فهو كالتارك للحيّة القاتلة ،
__________________
١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤ ، وفيه : « ثقب جلده ».
٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٥٣ ـ ٣٣٥٤.
٣ ـ كذا ، والظاهر : ثانيتها وثالثتها.