وسلوك سبيل الآخرة ، وفي طول هذه المدّة كنت عاجزاً عن رزقك لا حيلة لك فيه فجبنك بعد بلوغك غاية الجهل ، إذ لم تنقص عنك أسباب معيشتك ، بل زادت بقدرتك على الاكتساب ، وشفقة أبويك وإن كانت مفرطة فإنّما هي من الله تعالى وكما هو قادر على إلجائهما في هذه المدّة على الإشفاق ، فكذلك قادر على إلجاء آخرين عليك فخلق في قلوب كافّة عباده رقّة ورحمة على اختلاف مراتبها فيهم بتألّمهم بعد العلم القطعي باحتياج محتاج فينبعث منها داعية رفعه عنه فالمشفق في الأوّل كان واحداً أو اثنين والآن أكثر من ألفين ، ولقد أجاد من قال :
جرى قلم القضاء بما يكون |
|
فسيّان التحرّك والسكون |
جنون منك أن تسعى لرزق |
|
ويرزق في غشاوته الجنين |
فقد دبّر الله الملك والملكوت تدبيراً كافياً لأهلهما فمن شاهده وثق بالمدبّر وأمن بأخباره وسكن إلى ضمانه ، نعم تدبيره يصل إلى من اشتغل به صنوف النعماء من الثياب الرفيعة السنيّة والمآكل البهيّة وأمثالها وإلى من اشتغل بعبادته ومعرفته ما يسدّ جوعه ويستر عورته ، وربما زاد عليه أيضاً فلا مانع من التوكّل عليه الا ميل النفس إلى التنعّم بنعماء الدنيا والانهماك في لذّاتها ، وهذا ينافي سلوك الخرة.
والحاصل إنّ علم استناد الأشياء بأسرها إليه تعالى وعدم مدخلية غيره فيها فلا وجه لاضطرابه وعدم وثوقه ، وإن مال قلبه إلى الوسائط والأسباب فليعلم أنّ من جملتها التوكّل أيضاً لما عرفت من شهادة السمع والتجربة بكفاية الله أمر من توكّل عليه على أحسن وجه يتصوّره.
ومن علامات حصول التوكّل استواء حالته لدى الفقر والغنى والنفع والخسران وطمأنينة النفس في ذلك من دون تزلزل واضطراب ، فإنّ الاضطراب لفقد الأشياء علامة السكون إليها ، وفّقنا الله لهذا الأمر الجليل وهو حسبنا ونعم الوكيل.