الدنيا كيف يراه الآخرة؟
ولمّا كانت مراتب المعارف في الدنيا مختلفة فمراتب التجلّيات في الآخرة كذلك كاختلاف النبات باختلاف البذور بسبب قلّتها وكثرتها وحسنها وضعفها وقوّتها فكما أنّ في الدنيا من يؤثر لذّة الرئاسة على الجماع والأكل والشرب ، فكذا في الآخرة من يؤثر لذّة النظر إلى وجهه الكريم على ما في الجنان من الحور والنعيم.
وإذ علمت أنّ للعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم مع الله سبحانه في الدنيا لذّات لو عرضت عليهم الجنّة في الدنيا بدلاً عنها لم يستبدلوا بها وعلمت أنّها مع كمالها لانسبة لها إلى لذّة اللقاء والمشاهدة ، فكما أنّ لذّة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا يتفاوت بكماله في الحسن ونقصانه وكمال الحبّ والشهوة ونقصانهما وكمال الإدراك وضعفه فإنّ رؤيته من وراء الستر الرقيق أو في الظلمة أو من بعد غير رؤيته في وسط النهار على قرب منه واتّصال به من دون حائل وحجاب.
وكذا بالخلّو عن المشاغل القلبيّة والعوائق النفسية ومشوّشات الخاطر وعدمه كالصحيح على (١) المريض والمهموم المشغول قلبه بحادث يزعجه عن السكون مع الفارغ المطمئنّ ، فلو فرض عاشق ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من بعد ومن وراء ستر رقيق مع اجتماع عقارب وحيّات تلدغه وتؤذيه وتشغل قلبه فلا يخلو حينئذ من لذّة ما من مشاهدة معشوقه ، فلو عرضت له على الفجأة حالة انهتك معها الستر واندفعت عنه المؤذيات وبقي سليماً فارغاً وهجم عليه العشق المفرط ، فانظر هل للذّة الحادثة له حينئذ نسبة إلى اللذّة الاولى ، فالبدن ستر حاجب للنفس كما أشرنا إليه ، والشهوات الحسيّة كالعقارب والزنابير والحيّات وفتور الشهوة مثال لقصور النفس ونقصانها عن الميل إلى الملأ الأعلى كقصور الصبّي عن إدراك لذّة الرئاسة
__________________
١ ـ كذا ، والظاهر : مع.