وفي يوم الاثنين ثاني الشّهر المذكور جلس ـ خلّد الله ملكه ـ بالموضع المذكور وبايعه من كان بقي من النّاس وجماعة من وجوه حاج خراسان. وفي يوم الثّلاثاء ثالثه جلس أيضا لمبايعته من ورد من وجوه حاج أهل الشّام وغيرها. وفي هذا اليوم برز المرسوم الشّريف بقيام أرباب الدولة من عزاء الإمام المستضيء ، قدّس الله روحه ، فإنّهم كانوا قعدوا لذلك ببيت النّوبة ثلاثة أيّام ، وتكلّم فيها الوعّاظ وأنشد فيها الشّعراء ، وعادوا إلى دواوينهم وأشغالهم. وأشرقت شمس خلافته الشّريفة على بسيطة الوجود وأضاءت أنوار ولايته المقدّسة على كل موجود ، وظهرت بركة بيعته الشّريفة في كشف ما كان الخلق فيه من أثر جدب أضرّ بهم وأذهب موجودهم ، ووباء أتى على أكثرهم وأفنى عامّتهم ، فزال ببركة خلافته المقدّسة عنهم البؤس والبأس ، وعاد النّاس إلى صحة وخصب بعد القنوط والإياس ، فكان كما قال الشّريف أبو جعفر يحيى بن محمد العلوي يمدحه وأنشدنيه لنفسه :
وليت وعام النّاس أحمر ماحل |
|
فجدت وجاد الغيث فانقشع المحل |
وكم لك من نعماء ليس بمدرك |
|
لها حاسب إلا إذا حسب الرّمل |
واستبشر الخلائق بخلافته الشّريفة وظهر من سرورهم ببيعته المباركة ما شهد لهم بصدق الإخلاص في محبته ، وأوجب عليهم الشّكر لله سبحانه بما منّ به عليهم من نظره الكريم وإنالته ، فالله سبحانه يخلّد ملكه على دوام الأيام ، وينشر دعوته في أقطار الأرض على مرور السّنين والأعوام ، ويستجيب فيه صالح الأدعية من كلّ عبد مخلص ، إنه سميع قريب (١).
حدّثني قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعيد بن زبادة (٢) ، قال : مولد سيّدنا
__________________
(١) هذا المدح والثناء مألوف عند المؤرخين المعاصرين ، والناصر لدين الله كان عظيم السطوة شديد القسوة في معاملة المخالفين ، لكنه كان أسد بني العباس ، أعاد للخلافة هيبتها ، واستعاد سلطانها من الأعاجم.
(٢) بالباء الموحدة ، قيدته كتب المشتبه ، فانظر توضيح ابن ناصر الدين ٤ / ٣٣٦.