أرعى (١) بحقّي من أن أسترعيك إياه وأرأف على من أن أوصيك به ، ولكنّي أنصح لك فيما يتعلّق بك وبدولتك سالم الروم (٢) ما سالموك ، واقنع من الحمدانية بالدعوة والشكر (٣) ، ولا تبق على مفرج بن دعقل (٤) إن عرضت لك فيه فرصة. وانصرف العزيز فأخذته السكتة ، وكان في سياق الموت يقول : لا يغلب الله غالب ، ثمّ قضى نحبه ليلة الأحد لخمس خلون من ذي الحجّة ، فأرسل العزيز بالله إلى داره الكفن والحنوط ، وتولّى غسله القاضي محمد بن النعمان وقال : كنت والله اغسل لحيته وأنا أرفق به خوفا أن يفتح عينه في وجهي. وكفّن في خمسين ثوبا ، ثلاثين مثقلا ، يعني : منسوجا بالذهب ، ووشي مذهبا ، وشرب ديبقي مذهبا ، وحقّة كافورا ، وقارورتي مسك وخمسين منا ماء ورد ؛ وبلغت قيمة الكفن والحنوط عشرة آلاف (٥) دينار.
وخرج مختار الصقلبيّ وعليّ بن عمر العدّاس والرجال بين أيديهم ينادون لا يتكلّم أحد ولا ينطق ، وقد اجتمع الناس فيما بين القصر ودار الوزير التي عرفت بدار الديباج ، ثمّ خرج العزيز من القصر على بغلة والناس يمشون بين يديه وخلفه بغير مظلّة والحزن ظاهر عليه حتّى وصل إلى داره ، فنزل وصلّى عليه ، وقد طرح على تابوته ثوب مثقل ، ووقف حتّى دفن بالقبّة التي كان بناها وهو يبكي ، ثمّ انصرف. وسمع العزيز وهو يقول : واطول أسفي عليك يا وزير ، والله لو قدرت أفديك بجميع ما أملك لفعلت. وأمر بإجراء غلمانه على عادتهم ، وعتق جميع مماليكه ، وأقام ثلاثا لا يأكل على مائدته ولا يحضرها من عادته الحضور ، وعمل على قبره ثوبان مثقلان ، وأقام الناس عند قبره شهرا ، وغدا الشعراء إلى قبره ، فرثاه مائة شاعر أجيزوا كلّهم ، وبلغ العزيز أنّ عليه ستّة عشر ألف دينار دينا ، فأرسل بها إلى قبره فوضعت عليه وفرّقت على أرباب الديون ، وألزم القرّاء بالمقام على قبره ، وأجرى عليهم الطعام ، وكانت الموائد تحضر إلى قبره كلّ يوم مدّة شهر ، يحضر نساء الخاصّة كلّ يوم ومعهنّ نساء العامّة ، فتقوم الجواري بأقداح الفضّة والبلّور وملاعق الفضّة فيسقين النساء الأشربة والسويق (٦) بالسكّر ، ولم تتأخّر نائحة ولا لاعبة عن حضور القبر مدّة الشهر ، وخلّف أملاكا وضياعا قياسير (٧) ورباعا وعينا وورقا وأواني ذهبا وفضّة وجوهرا وعنبرا وطيبا وثيابا وفرشا ومصاحف وكتبا وجواري وعبيدا وخيلا وبغالا ونوقا وحمرا وإبلا
__________________
(١) في الكامل لابن الأثير ٧ / ١٤٦ : لحقّي من أن أوصيك بمخلفي.
(٢) في الكامل لابن الأثير ٧ / ١٤٦ : سالم الحمدانية ما سالموك.
(٣) في النجوم الزاهرة ٤ / ١٦١ : والسكّة.
(٤) في الكامل لابن الأثير ٧ / ١٤٦ : ابن دغفل.
(٥) النجوم الزاهرة ٤ / ١٦١.
(٦) في المنجد : السويق : الناعم من دقيق الحنطة والشعير.
(٧) القياسير : الدكاكين.