بنفسه إلى الصحراء ، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور ، بخلاف ما كنا نعهده من حاله قبل ، وأذن لأصحابه في الدخول عليه ، وأخذ يحادثهم ، فلما رأينا الشيخ على هذه الحالة من المؤانسة بعد إقامته تلك المدّة الطويلة في الخلوة والعزلة ، سألناه عن ذلك فقال : بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفردا ، فخرجت فوجدت كل شيء من النبات ساكنا لا يتحرّك لعدم الريح وشدّة القيظ ، ومررت بنبات له ورق ، فرأيته في تلك الحال يميس بلطف ويتحرّك من غير عنف ، كالثمل النشوان ، فجعلت أقطف منه أوراقا وآكلها ، فحدث عندي من الارتياح ما شاهدتموه ، وقوموا بنا حتى أوقفكم عليه لتعرفوا شكله.
قال : فخرجنا إلى الصحراء ، فأوقفنا على النبات ، فلما رأيناه قلنا هذا نبات يعرف بالقنب ، فأمرنا أن نأخذ من ورقه ونأكله ، ففعلنا ، ثم عدنا إلى الزاوية فوجدنا في قلوبنا من السرور والفرح ما عجزنا عن كتمانه ، فلما رآنا الشيخ على الحالة التي وصفنا ، أمرنا بصيانة هذا العقار ، وأخذ علينا الأيمان أن لا نعلم به أحدا من عوامّ الناس ، وأوصانا أن لا نخفيه عن الفقراء ، وقال إن الله تعالى قد خصكم بسرّ هذا الورق ليذهب بأكله همومكم الكثيفة ، ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة ، فراقبوه فيما أودعكم ، وراعوه فيما استرعاكم. قال الشيخ جعفر : فزرعتها بزاوية الشيخ حيدر بعد أن وقفنا على هذا السرّ في حياته ، وأمرنا بزرعها حول ضريحه بعد وفاته ، وعاش الشيخ حيدر بعد ذلك عشر سنين وأنا في خدمته لم أره يقطع أكلها في كل يوم ، وكان يأمرنا بتقليل الغذاء وأكل هذه الحشيشة ، وتوفي الشيخ حيدر سنة ثمان عشرة بزاويته في الجبل ، وعمل على ضريحه قبة عظيمة ، وأتته النذور الوافرة من أهل خراسان وعظموا قدره وزاروا قبره ، واحترموا أصحابه ، وكان قد أوصى أصحابه عند وفاته أن يوقفوا ظرفاء أهل خراسان وكبراءهم على هذا العقار وسرّه ، فاستعملوه.
قال : ولم تزل الحشيشة شائعة ذائعة في بلاد خراسان ومعاملات فارس ، ولم يكن يعرف أكلها أهل العراق حتى ورد إليها صاحب هرمز ، ومحمد بن محمد صاحب البحرين ، وهما من ملوك سيف البحر المجاور لبلاد فارس في أيام الملك الإمام المستنصر بالله ، وذلك في سنة ثمان وعشرين وستمائة ، فحملها أصحابهما معهم وأظهروا للناس أكلها ، فاشتهرت بالعراق ووصل خبرها إلى أهل الشام ومصر والروم فاستعملوها. قال : وفي هذه السنة ظهرت الدراهم ببغداد ، وكان الناس ينفقون القراضة ، وقد نسب إظهار الحشيشة إلى الشيخ حيدر الأديب محمد بن عليّ بن الأعمى الدمشقيّ في أبيات وهي :
دع الخمر واشرب من مدامة حيدر |
|
معنبرة خضراء مثل الزبرجد |
يعاطيكها ظبي من الترك أغيد |
|
يميس على غصن من البان أملد |
فنحسبها في كفه إذ يديرها |
|
كرقم عذار فوق خدّ مورّد |