(وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف / ١٣٧] فما ظنك يا أمير المؤمنين بشيء دمّره الله هذا بقيته ثم قال سعيد : لقد بلغنا أن أرضا لم تكن أعظم من مصر ، وجميع أهل الأرض يحتاجون إليها ، وكانت الأنهار بقناطر وجسور بتقدير ، حتى أنّ الماء يجري تحت منازلهم وأفنيتهم ، يرسلونه متى شاؤوا ويحبسونه متى شاؤوا ، وكانت البساتين متصلة لا تنقطع ، ولقد كانت الأمة تضع المكتل على رأسها فيمتلىء مما يسقط من الشجر ، وكانت المرأة تخرج حاسرة لا تحتاج إلى خمار لكثرة الشجر ، وفي قبة الهواء حبس المأمون الحارث بن مسكين. قال الكنديّ في كتاب الموالي : قدم المأمون مصر وكان بها رجل يقال له الحضرميّ ، يتظلم من ابن أسباط وابن تميم ، فجلس الفضل بن مروان في المسجد الجامع ، وحضر مجلسه يحيى بن أكثم وابن أبي داود ، وحضر إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد ، وكان على مظالم مصر ، وحضر جماعة من فقهاء مصر وأصحاب الحديث ، وأحضر الحارث بن مسكين ليولي قضاء مصر ، فدعاه الفضل بن مروان ، فبينما هو يكلمه إذ قال الحضرميّ للفضل : سل أصلحك الله الحارث عن ابن أسباط وابن تميم. قال : ليس لهذا أحضرناه. قال : أصلحك الله سله ، فقال الفضل للحارث : ما تقول في هذين الرجلين فقال : ظالمين غاشمين. قال : ليس لهذا أحضرناك ، فاضطرب المسجد وكان الناس متوافرين ، فقام الفضل وصار إلى المأمون بالخبر وقال : خفت على نفسي من ثوران الناس مع الحارث ، فأرسل المأمون إلى الحارث فدعاه ، فابتدأه بالمسألة فقال : ما تقول في هذين الرجلين؟ فقال : ظالمين غاشمين. قال : هل ظلماك بشيء؟ قال : لا. قال : فعاملتهما؟ قال : لا. قال : فكيف شهدت عليهما؟ قال : كما شهدت أنك أمير المؤمنين ولم أرك قط إلّا الساعة ، وكما شهدت أنك غزوت ولم أحضر غزوك. قال : اخرج من هذه البلاد فليست لك ببلاد ، وبع قليلك وكثيرك ، فإنك لا تعاينها أبدا.
وحبسه في رأس الجبل في قبة ابن هرثمة ، ثم انحدر المأمون إلى البشرود وأحضره معه ، فلما فتح البشرود أحضر الحارث ، فلما دخل عليه سأله عن المسألة التي سأله عنها بمصر ، فردّ عليه الجواب بعينه ، فقال : فأيّ شيء تقول في خروجنا هذا؟ قال : أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك ، أنّ الرشيد كتب إليه في أهل دهلك يسأله عن قتالهم فقال : إن كانوا خرجوا عن ظلم من السلطان فلا يحلّ قتالهم ، وإن كانوا إنما شقوا العصا فقتالهم حلال. فقال المأمون : أنت تيس ومالك أتيس منك ، ارجل عن مصر. قال : يا أمير المؤمنين إلى الثغور؟ قال الحق بمدينة السلام. فقال له أبو صالح الحرّانيّ : يا أمير المؤمنين تغفر زلته؟ قال : يا شيخ تشفعت فارتفع.
ولما بنى أحمد بن طولون القصر والميدان تحت قبة الهواء هذه ، كان كثيرا ما يقيم