وروي أنه نزل هو وأبو بكر بأُمّ معبد وَذْفَان مَخْرَجه (١) إلى المدينة. فأرسلت إليهم شاةً فرأى فيها بُصْرة (٢) من لَبن ، فنظر إلى ضَرعها ، فقال : إن بهذه لبناً ، ولكن أبْغيني شاةً ليس فيها لبن ، فبعثت إليه بعَنَاقٍ (٣) جَذَعة ، فدعا بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضَرْعها ، وسمَّى اللهَ ودَعا لها في شائها ؛ فتفاجّت عليه ودَرَّت واجترَّت.
وروي أنه قال لابنِ أمّ معبد : يا غلامُ ؛ هات قَرْواً ، فأتاه به ؛ فضرب ظَهْر الشاة فاجترَّت ودَرَّت ، ودعا بإناء يُرْبِضُ الرَّهْطَ ، فحلب به ثَجًّا حتى علاه الْبَهاء ـ وروي : الثُّمال ، ثم سقاها حتى رَوِيت ، وسقَى أصحابَه حتى رَوُوا ، فشرب آخرهم ، ثم أَرَاضُوا عَلَلاً بعد نَهل ، ثم حلب فيه ثانياً بعد بَدْء حتى ملأ الإناء ، ثم غادره عندها ، ثم بايعها ثم ارتحلُوا عنها.
فقلَّما لبثت حتى جاء زوجُها أبو معبد يسوق أَعْنزاً عِجَافاً تَشَارَكْن هُزالاً ـ وروي : تَسَاوكُ ـ وروي : ما تَسَاوَق ، مُخّهن قليل. فلما رأى أبو معبد اللَّبنَ عَجِب ، وقال : من أين لك هذا يا أمّ معبد والشاءُ عَازِب حِيَال (٤) ، ولا حَلوبَ في البيت؟
قالت : لا والله إلا أنه مرَّ بنا رجلٌ مُبَارك مِنْ حاله كذا وكذا. قال : صِفيه لي يا أم معبد. قالت : رأيتُ رجلاً ظاهرَ الوضاءة ، أَبلج الوجه ، حَسَن الخلق ، لم تعْبه ثجْلَة ، ولم تُزْر به صُقْلة ـ وروي صَعْلة ـ وروي لم يعبه نُحْلة (٥) ، ولم يزر به صُقْلة ، وَسِيماً قسيماً ، في عينيه دَعَج ، وفي أشفاره عَطَف. أو قال غَطَف ـ وروي وَطَف. وفي صَوْته صَحَل ، وفي عُنُقه سَطَع ، وفي لحيته كَثاثة ، أزجّ أَقْرن ، إن صمت فعليه الوَقَارُ ، وإن تكلَّم سما وعلاه البَهَاء ، وأجلّ الناس وأبهاهم من بعيد ، وأحسَنُه وأجملُه من قريب ، حُلْو المنطق ، فَصْلٌ لا نَزْر ولا هَذَر ، كأنما منطقه خَرزات نَظْم يتحدّرون ، رَبْعَة لا يائس من طول ، ولا تقتحمه عَيْن مِنْ قِصَر ، غُصن بين غُصْنَيْن ، فهو أنضر الثلاثة مَنْظَراً ، وأَحسنهم قَدْراً ، له رُفَقاء يَحفُّونه ، إن قال أَنْصتوا لقَوْله ، وإن أمر تبادَرُوا إلى أَمره ، مَحْفود مَحْشود ، لا عابِس ولا مُعْتد.
قال أبو معبد : هو والله صاحبُ قُريش الذي ذُكِر لنا من أمْرِه ما ذُكِر بمكة ، لقد هممتُ أن أصحبَه ولأفعلنّ إنْ وجدتُ إلى ذلك سبيلاً.
__________________
(١) وذفان مخرجه : أي عند مخرجه.
(٢) أي أثراً قليلاً يبصره الناظر إليه.
(٣) العناق : الأنثى من أولاد المعز ، والجذع : ما قبل الثني ، والأنثى جذعة ، وأجذع ولد الشاة دخل في السنة الثانية.
(٤) عازب حيال : أي بعيدة المرعى لا تأوي إلى المنزل إلا في الليل ، والحيال : جمع حائل وهي التي لم تحمل.
(٥) النُحلة : الدقة والهزال.