فكذا يقال كثير اليقين بكثرة متعلّقاته ، وبالخفاء والظهور ، فإنّ اليقين بالبديهيّات أوضح منه بالنظريات ، وإن اتّفقت في نفي الشكّ عنه ، ومن كان استيلاء يقينه على أكثر كان أوضح عنده ممّا كان تصرّفه في نفسه أضعف وهكذا.
كذا أفاده بعض الأعلام. (١)
أقول : عروض القوّة والضعف له باعتبار أثره ، كما أنّ القلّة والكثرة تعرضه باعتبار متعلّقه ، فمعنى قولهم فلان قويّ اليقين أنّه قوي أثره فيه ، أعني الاستيلاء المذكور ، فإنّه أثر لليقين بالمعنى الأوّل ، وليس معنى آخر له وليس تفاوته بالقوّة والضعف باعتبار حقيقته حتّى يقال إنّ نفي الشك لاتفاوت فيه ، بل باعتبار اختلافه في الوضوح والخفاء ، فإنّه كلّما كان أظهر كان ترتّب أثره عليه أسرع ، وكلّما كان أخفى كان عن الترتّب المذكور أبعد.
وتفصيل ذلك أنّ الوجدان يشهد بالتفرقة بين ما يدرك بحسّ الإبصار كلأجسام أو بالخيال كصورها المرتسمة في الذهن لا من اختلافهما ضرورة اتّفاقهما ، بل بمزيد الكشف والوضوح ، حيث صارت بالرؤية أتّم وضوحاً ، كما في الرؤية في أوّل الإسفار والرؤية بعد طلوع الشمس ، فالخيال أوّل الادراك ، والرؤية كماله ، أي غاية الكشف ، وهذا الادراك له تأثير في نفس المدرك مختلف المراتب في الشدّة والضعف بحسب تفاوت نوعيه ، كما أنّ مدرك الوجه الحسن بالسماع والتخيّل لايتأثر منه مثل ما يتأثّر به مدركه بحسّ البصر ، وكما أنّ العالم بكون الأسد في الطريق بالخبر لا يتأثّر بمثل ما يتأثّر به المشاهد له حال قصده لإهلاكه من الدهشة والأضطراب ، وكذلك المعقولات التي لامدخل لحسّ الإبصار والتخيّل فيها ، فأوّل مرتبة ينفى عنها الشكّ علم ويقين ، كالعلم بوجود الأسد في الطريق من الخبر المتواتر.
وفوق هذه المرتبة في الادراك مرتبة منزّلة منزلة الإبصار تسمّى مشاهدة.
__________________
١ ـ هو أبو حامد الغزالي ، راجع المحجة البيضاء : ١ / ١٥١_١٥٤.