ولكلّ منهما مراتب لاتتناهى في شدّة الكشف والضعف بحسب استعداد المدرك وصفائه ونقائه عن الحجب الحسيّة وكدورة الظلمات الطبيعيّة وصقالته عن الأخباث الردّية ، والباعث لحصول الأولى بمراتبها هو الانتقال من الملزوم إلى الازم وبالعكس ، ويسمّى علم اليقين كالعلم بوجود النار من مشاهدة الدّخان فلا يترتّب عليها كثير أثر من استيلائها على القلب وتصرّفها فيه بالأمر والنّهي والقبض والبسط كما لا يترتّب على العالم بالتواتر كون الأسد في الطّريق من الدهشة والاضطراب وتغيّر اللّون ورجف الأعضاء الا قليل لايكمل به المطلوب.
وللمرتبة الثالثة مراتب مختلفة في الظهور والخفاء أيضاً الا أنّها مشتركة في تمام التأثير في النفس والبدن ، فإن كان بطريق مشاهدة المطلوب بالبصيرة الباطنة الحاصلة من التصفية وتجرّد النفس كليقين بوجود النار من مشاهدتها بالعيان وهو عين اليقين ، وقد أشار سبحانه إليه بقوله : ( ثمّ لترونّها عين اليقين ) (١).
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام لمّا سأل عنه ذعلب اليماني : هل رأيت ربّك؟ « لم أعبد ربّاً لم أره » (٢).
وإن كان من مشاهدة فيضان الآثار والأنوار من المطلوب إليه بسبب ارتباط تامّ بين العاقل والمعقول واتّحاد معنوي بحيث يرى نفسه رشحة منه غير منفكّ عنه كاليقين بوجود النار من الدخول فيه فيسمّى حقّ اليقين ، ولا تحصل هاتان الدرجتان الا بعد مجاهدات عظيمة بهجر الرسوم والعادات وترك العلائق والشهوات وقطع الوساوس النفسانيّة وقلع الهواجس الشيطانيّة وقصر النظر في ملاحظة جماله ومشاهدة أنوار جلاله والاستغراق في بحر معرفته وأنسه والفناء في حضرة قدسه حتّى يحصل للنفس صفاء
__________________
١ ـ التكاثر : ٧.
٢ ـ التوحيد للصدوق : ص ٣٣٠٥ ، وفيه : « لم أكن بالذي أعبد ».