وأيضاً فإنه قد يكون كمال ما بحيث يعلم أنه كائن ولذيذ ولا يتصوّر كيفيّته ولا يشعر باللذّة ، ومالم يشعر لم يشتق ، ولم ينزع نحوه مثل العنين ، فإنه متحقّق عنده أنّ للجماع لذّة ولكنه لايشتهيه ، ولا يحنّ نحوه ، وكذلك حال الأكمه عند الصور الجميلة ، والأصم عند الألحان المنتظمة. وربّما يتيسّر للقوّة الدرّاكة وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضدّه مثل كراهة بعض المرضى الطعم الحلو وشهوتهم الطعوم الرديّة ـ إلى أن قال ـ : وقد تكون القوّة الدرّاكة ممنوّة بضدّما هو كمالها ، ولا تحسّ به ولاتنفر عنه حتى إذا زال العائق عنها تأذّت به كلّ التأذّي مثل الممرورين ، فربما لم يحسّ بمرارة فمه إلى أن يصلح مزاجه فحينئذ ينفر عن الحالة العارضة له ، وقد يكون الحيوان غير مشته للغذاء وهو أوفق شيء له بل كارهاً له ، ويبقى عليه مدّة طويلة فإذا زال العايق عاد إلى واجبه في طبعه فاشتدّ جوعه وشهوته للغذاء حتّى لا يصبر عنه أو يهلك عند فقدانه ، وكذلك قد يحصل سبب الألم العظيم مثل إحراق النار وتبريد الزمهرير ، الا أنه يحسّ البدن آفة (١) فلا يتأذّى البدن به حتّى تزول الآفة ، فيحسّ حينئذ بالالم العظيم.
ثمّ قال : إذا تقرّرت هذه الأصول فنقول : إنّ النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن يصير عالماً عقليّاً مرتسما فيها صورة الكلّ والنظام المعقول في الكلّ والخير الفائض في الكل مبتدءاً من مبدأ الكل وسالكاً إلى الجواهر الشريفة التي هو مبدأ لها (٢) ، ثم الروحانيّة المتعلّقة نوعاً بالأبدان ، ثمّ الأجسام العلويّة بهيئاتها وقواها ، ثم كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيأة الوجود كلّه فتصير عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كلّه ، مشاهدة لما هو الحسن المطلق والجمال الحق ومتّحدة به منتقشة بمثاله وهيأته ، منخرطة في
__________________
١ ـ كذا ، وفي المصدر : الا أنّ الحسّ مؤوف.
٢ ـ كذا ، وفي المصدر : مبتدأة من مبدأ الكلّ ، سالكة إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة ثم ...