وإمّا بغلبة اليقين بإطّلاع تعالى على ظاهرهم وباطنهم مع عدم دهشتهم بملاحظة الجلال بل بقيت قلوبهم على حدّ الاعتدال ملتفتة إلى الأعمال والأحوال الا أنّه غلب عليهم الحياء من الله تعالى ، فلا يقدمون ولا يحجمون الا بعد التثبت فيه ويمتنعون عمّا يفضحهم في الآخرة ، فإنّهم يرونه تعالى في الدنيا مطّلعاً عليهم فلايحتاجون إلى انتظار القيامة ، وفرق ما بين الدرجتين يعرف بالتأمّل فيما تتعاطاه في خلوتك من الأعمال ، فبحضور صبيّ تعلم اطلاعه عليك تستحيي منه فتحسن جلوسك وتراعي أحوالك لا عن إجلال وتعظيم ، بل عن حياء ، وبحضور ملك أو كبير تعظّمه وتجلّه تترك ما أنت فيه شغلاً به لا حياء منه ، وهذا يحتاج إلى مراقبة جميع حركاته وسكناته وكلّ اختياراته فينظر قبل العمل فيما تحرّك إليه خاطره أهو لله خاصّة أو في هوى نفسه ، فيتوقّف حتى ينكشف له بنور الحقّ فيمضيه في الأوّل دون الثاني بل يلوم نفسه فيه على الميل والهمّ ، وهذا التوقّف في بدو (١) الأمر واجب.
ففي الخبر : « ينشر للعبد في كلّ حركاته وإن صغرت ثلاثة دواوين : الأوّل لم ، والثاني كيف ، والثالث لمن ». (٢)
ولايخلص من هذا الا بالمعرفة التامّة بأسرار الأعمال واغترارات النفس ومكائد الشيطان والتمييز بين ما يحبّه هواه أو يحبّه الله ويرضى به في نيّته وفكرته وسكونه وحركته ، والجاهل غير معذور ، بل ينبغي التوقّف حتى ينكشف بنور العلم أنّه لله فيمضيه ، أو لهوى النفس فيتّقيه ، فإنّ الخطرة الاولى في الباطل إذا لم تدفع أحدثت الرغبة المورثة للهمّ المورث للقصد الجازم المورث للفعل المنتج للبوار ، فلابدّ من حسم مادة الشرّ عن أصله أعني الخاطر وإن لم يستضيء له الحق لعجزه عن الفكر بنفسه استضاء بنور علماء
__________________
١ ـ كذا ، والصحيح : « بدء » فإنّ البدو بمعنى البادية لا الابتداء.
٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٥٨.