التوكّل والأوّل نفاق محض ، والثاني موجود في عموم المسلمين ، وقد أشرنا إلى ما به يقوى ويتأكّد ولا دخل له أيضاً بالتوكّل الا قليل منه بعد تقوية كاملة.
وأمّا الثالث فهو مبنى التوكّل ، وهو انكشاف أن لا فاعل الا الله وأنّ كلّ ما يطلق عليه اسم من الغنى والفقر والخلق الرزق والبسط والقبض والموت والحياة قد تفرّد المبدع الحقيقي بإبداعه واختراعه ، وبعد ذلك لاتنظر الا إليه ولاتخاف الا منه ، ولا تثق الا به ، حيث إنّ ماسواه مسخّرون تحت قدرته لا استقلال لهم بتحريك ذرّة.
والمانع عن هذه المشاهدة أحد أمرين :
أوّلها : الالتفات إلى الجمادات كالاعتماد على المطر في الزرع ، والغيم في الامطار ، والبرد في الغيم ، والريح في سير السفينة ووصولها ونجاتها ، ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدّين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون ) (١) أي يقولون لولا استواء الريح لما نجونا هذا جهل وغرور عظيم من الشيطان الرجيم كالتفات من نجا من ضرب السيّاف لرقبته بتوقّيع الملك إلى قلم الكاتب ودواته وكاغذه دون الملك الآمر والكاتب الموقع ، ولو علم أنّه لا حكم للقلم وإنّما هو مسخّر في يده لم يلتفت الا إليه ، بل ربما أدهشه الفرح بذلك عن تصوّره القلم ونحوه ، وكلّ جماد وحيوان مسخّر تحت يد القدرة كذلك ، بل أعظم من ذلك.
وثانيهما : وهو الخطر الأعظم الذي يغرّك به الشيطان بعد إياسه عن الأوّل الالتفات إلى اختيار العباد ، فيقول : كيف يكون الكلّ منه مع ماتشاهد من أنّ فلاناً يعطي ويمنع ويضرب ويقتل فكيف لاترجوه ولاتخاف منه وهو قادر عليك ، تشاهد ذلك بلاشكّ وريب ، فالقلم لايلتفت لكونه مسخّراً ، لكنّ الكاتب هو المسخّر له فتزلّ عنده الأقدام وتدهش فيه عقول
__________________
١ ـ العنكبوت : ٦٥.