لكنه تعالى ألقى بواسطة النبوّة إلى كافة الناس ما تحتمله أفهامهم وتصل إليه أوهامهم.
قال الغزالي في المضنون : اللذّة المحسوسة الموعودة في الجنان من أكل وشرب ونكاح يجب التصديق بها لإمكانها وهي حسّي وخياليّ وعقليّ.
أمّا الحسّي فبعد ردّ الروح إلى البدن كما ذكرناه. ولا كلام في أنّ بعض هذه اللذّات ممّا لا يرغب فيها كلّ أحد كاللبن والاستبرق والطلح المنضود والسدر المخضود ، وقد خوطب بهذا جماعة يعظم ذلك في أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة ، وفي كلّ صنف واقليم مطاعم ومشارب ومالبس يختصّ بقوم دون قوم ، ولكلّ أحد في الجنّة ما يشتهيه.
( ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون ). (١)
وربما عظّم الله شهوة في الآخرة لا يشتهيه أهل الدنيا في الدنيا كالنظر إلى ذاته سبحانه ، فإنّ الرغبة الصادقة فيها إنّما يكون في الآخرة دون الدنيا ، ـ إلى أن قال ـ :
وأمّا الوجه العقلي فهو أن يكون هذه المحسوسات أمثلة لللذات العقلية الغير المحسوسة ، لكنّها تنقسم إلى أنواع مختلفة الذات كالحسيّات ، فتكون أمثلة لها ، وكلّ واحد منها مثالاً للأخرى ، وإن كانت ممّا لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فيجوز أن يجمع بين الكلّ ، ويجوز أن يكون نصيب كلّ واحد بقدر استعداده ، فالمشغوف بالتقليد المتقيّد بقيد الصورة الذي لم ينفسح له طريق الحقائق يمثّل له هذه الصور ، والعارفون المستبصرون يفتح لهم من لطائف السرور واللذّات العقليّة ما يليق بهم ويشفي شوقهم وشهوتهم ، إذ حدّ الجنّة أنّ فيها لكلّ امرىء ما يشتهيه ، فإذا اختلف الشهوات اختلفت العطيّات واللذّات ، والقدرة واسعة ، والقوّة البشريّة عن الاحاطة بعجائب القدرة قاصرة ، والرحمة الالهيّة ألقت بواسطة
__________________
١ ـ فصلت : ٣١.