قلوب هؤلاء الصنّاع المصلحين وسلّط عليهم الانس والمحبّة حتى ائتلفوا واجتمعوا وبنوا المدن ورتّبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة والدكاكين والخانات وسائر البقاع ، ولو تفرّقت آراؤهم وتنفّرت طباعهم تنافر طباع الوحوش لتبدّدوا وتباعدوا ولم ينتفع بعضهم من بعض ، ولمّا كان في جبلّة الانسان الحسد والعداوة والبغضاء والشهوات المختلفة الباعثة للانحراف عن الحقّ ، فربما زالت المحبّة وأدّى إلى التنافر والمعاداة والمقائلة بعث الله الأنبياء بقوانين السياسات ليرجعوا إليها عنها التنازع وبعث العلماء لحفظ تلك الشرائع والعلم بها وبعث السلاطين ليقيموا الناس عليها قهراً إذا لم يرضوا بها وألقى في قلوبه الرغبة إلى نظام أمور الرعية بتعيين الحكّام والقضاة والشحن وضبط الأسواق وقهر الناس على قانون الشريعة وألزموهم التعاون والتآلف ومنعوهم عن التفرّق والتباغض ، فإصلاح الرعايا بالسلاطين وإصلاح السلاطين بالعلماء وإصلاح العلماء بالأنبياء وإصلاح الكلّ بالحضرة الربوبية التي هي ينبوع كلّ نظام ومطلع كلّ حسن وجمال ومنشأ كل ترتيب وتأليف.
الخامس : ثم جميع الأطعمة لمّا لم يكن وجودها في كلّ مكان إذ لكلّ واحد منها شروطاً مخصوصة لعلّها لاتوجد في بعض الأماكن والناس منتشرون في الأرض ، فربما يبعد عن بعضهم ما يحتاجون إليه منها بحيث يحول بينهم وبينها البراري والقفاز والبحار سخّر الله التجّار وسلّط عليهم حرص المال وشره الربح حتى التزموا الأخطار في قطع المفاوز وركوب البحار وحمل لأطعمة وغيرها من الشرق إلى الغرب وبالعكس ، فانظر كيف علّمهم صنعة السفن وكيفية الركوب عليها وكيف خلق الحيوانات وسخّرها للحمل والركوب في البراري من الجمال ، وكيف خلق الحيوانات وسخرها للحمل والركوب في البراري من الجمال ، وكيف قطعها للمنازل تحت الأعباء الثقيلة ، وصبرها على الجوع والعطش ، وإلى الحمار وصبره على التعب.