والانقطاع عن الدنيا وشهواتها ، فإنّ الأعضاء كما عرفت خدّامه وأتباعه ، فما لم يتنوّر أوّلاً لم يسر نورانيّته إليها ولم ترتفع عنها ظلمة الأخباث والكدورات الحاصلة لها من مباشرة أمور الدنيا.
ثم إنّه أمر في الوضوء أوّلاً بغسل الوجه الذي هو مجمع أكثر الحواسّ الظاهرة التي هي عمدة أسباب مباشرة الأمور الدنيويّة ليتوجّه بوجه قلبه إليه تعالى خالياً عن تلك الأدناس ، وثانياً بغسل اليدين لمباشرتها أكثر الأمور الدنيوية والشهوات الطبيعية المانعة عن الإقبال إلى الآخرة ، وثالثاً بمسح الرجلين للتوصّل بهما إلى أغلب المطالب الدنيوية فأمر بتطهيرهما جميعاً ليسوغ له الدخول في عبادة الله والإقبال إلى الله بعد إقباله إلى الدنيا.
وفي الغسل بغسل جميع البدن ، لأنّ أدنى حالات الإنسان وأشدّها تعلّقاً بالملكات الشهوية حالة الجماع ولجميع البدن مدخل فيها كما ورد عن النبي صلىاللهعليهوآله : « أنّ تحت كلّ شعرة جنابة » (١) فكان غسله أجمع مهمّاً في التأهّل لمقابلة الجهة الشريفة.
وفي التيمّم بمسح الأعضاء بالتراب كسراً لتلك الأعضاء الرئيسة وهضماً لها بملاقاة التربة الخسيسة ، ولمّا كان القلب هو الرئيس الآمر لها بها يبعّده عن الربّ ، وهو موضع التفاته تعالى ، كما ورد « أنّ الله لاينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم » (٢) فله الحظّ الأوفر والمقام الأليق في تطهيره عن الرذائل المانعة عن تحليته بالفضائل من الأعضاء الظاهرة عند الفطن العاقل ، فإذا لم يمكنه ذلك لغاية رسوخ تلك الملكات فيها فلا أقلّ من إقامته مقام الهضم والانكسار والذلّ والعجز والافتقار ، كما أنّ في الأعضاء مع عدم التمكن من الماء يذلّلها بوضعها على التراب عسى أن يرحمه ربّه بذلّه وانكساره ، فإنّه عند المنكسرة قلوبهم فيهبّه نفحة من نفحات نوره ،
__________________
١ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٠٦.
٢ ـ المحجّة البيضاء : ٦ / ١٠٨ و ٣١٢.