وأمّا السرّ في وضعه وشرعه فهو أنّ المقصد الأصلي من خلق الإنسان معرفة الله الوصول إلى حبّه وأنسه المتوقّفين على صفاء النفس المتوقف على كفّها عن الشهوات وانقطاعها عن الدنيا وإيقاعها في ما يشقّها من أعمال القلب والجوارح ، وهذا هو المقصود من وضع العبادات ، إذ بعضها كالصدقات والخمس إنفاق موجب للانقطاع عن حطام الدنيا ، وبعضها كفّ للنفس عن الشهوات كالصوم ، وبعضها تجرّد للذكر ، وتوجيه القلب إليه تعالى الغير المتحقّق أيضاً الا بالانقطاع عن علائق الدنيا.
والحجّ من بينها مشتمل على جميع ما ذكر مع زيادة ، ففيه هجر الأوطان وقطع المنازل البعيدة بتعب الأبدان ، والإنفاق مع تحمّل المشاقّ ، وتجديد العهد والميثاق والتجرّد للأذكار والعبادات بصنوف الطاعات ، مع كون كثير منها ممّا لايهتدي إليها العقول ، ولايستأنس بها الطباع كرمي الجمار بالأحجار ، وتكرار السعي بين الصفا والمروة مع الهرولة بين المنارتين ، فيظهر فيها كمال الإخلاص والعبوديّة ، لأنّ مايفهم سرّه العقل يكون معيناً للشرع على فعله بخصوصه بخلاف ما لايدركه ، فإنّه لايعينه على الخصوصن وإنّما يأمره بالإطاعة والامتثال إجمالاً ، وهذا أحد الأسرار في وضع التعبّديات.
هذا ، مع دلالة كلّ من أعماله على بعض أحوال الآخرة كما يأتي ، مع ما فيه من اجتماع الخلق الكثير والوصول إلى موضع نزول الوحي وهبوط الملائكة على الرسول الأمين وقبله على الخليل ومجمع الأنبياء والمرسلين ، ومحلّ ولادة سيّد المرسلين وخير الوصيّين ، وتشرّف أماكنها بتوطّىء أقدامهم الشريفة ، مضافاً إلى الشرافة الحاصلة من الإضافة إلى نفسه ، وجعل ما حوله حرمناً آمناً يأوي الناس إليه وعرفات ميداناً لحرمه وأكدّ حرمته بتحريم صيده وقطع شجره ، وأمر الناس بقصده من كلّ فجّ عيمق شعثاً غبراً متواضعين له مع الاعتراف بتنزّهه عن المكان.