الملائكة عند ما مناجاته ويفتخر برؤيته وبه يعمر الله بلاده ، وبكرامته يكرم الله عباده ، يعطيهم إذا سألوه بحقه ، ويدفع عنهم البلاء برحمته ، فلو علم الخلق ما محله عند الله ومنزلة لديه ما تقربوا إلى الله تعالى إلا بتراب قدميه ». (١)
تبصرة
قد ظهر لك في بحث السعادة أن لكل من القوى الانسانية لذة تخصها وأذى يختص بها وأنها في نيلها بمقتضى غريزتها التي خلقت لأجلها وعدمه ، فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام ، فلذتها في حصولهما وغريزة قوة شهوة الطعام خلقت لتحصيل الغذاء الذي به يتقوم البدن ، فلذتها في نيله وكذا غيرهما من القوى ، كما أن للحواس الظاهرة والباطنة ملائمات ومنافرات طبيعية ، فكذا القلب له غريزة لذته في الوصول إلى مقتضى طبعها المخلوقة لأجله ، وهي العقل الذي خلق ليعلم به حقائق الأشياء على ما هي عليها ، فمقتضى طبعه العلم والمعرفة حتى إن الانتساب إلى العلم ولو بالأمور الخسيسة يوجب فرحاً ونشاطاً للنفس ، والجهل بها يوجب غماً وكدورة وألماً ، بل لايكاد الانسان يصبر عن التحدي والتمدح به فيما يعلمه وإن كان حقيراً في مجلس يبحث عنه أقرانه ويرتاح طبعه إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم ، وليس ذلك إلا لفرط لذة العلم واستشعار النفس بكمالها بسببه ، لأن العلم من أخص صفات الربوبية وهو نهاية الكمال كما عرفت غير مرة ، فيستشعر مما ذكر مايعجبه عن نفسه ويلتذ به.
ثم لاشك في أن العلم وإن كان كمالاً مطلقاً إلا أن لذته بقدر شرفه وشرفه بقدر شرف المعلوم ، فليست لذة العلم بالحياكة والحراثة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمور الخلق ولا العلم بالنحو والشعر كلذة العلم بالله وصفاته وأفعاله.
ولذا يختار لو خير الأشرف على غيره ، فإن كان في المعلومات ماهو
__________________
١ ـ مصباح الشريعة : الباب ٩٦ ، في الحب في الله.