الأجلّ والأكمل والاشرف كان العلم به ألذّ ولذّته أقوى وأعظم وأدوم.
وهل في الوجود شيء أجلّ وأعلى وأشرف وأبهى من خالق الأشياء ومكمّلها ومبدعها ومدبّرها ومزيّنها؟
وهل يمكن أن تكون حضرة أعظم في البهاء والثناء والكمال والجلال والجمال عن الحضرة الربوبية التي لايحيط بمباديء جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين ، فإن أيقنت بذلك فأيقن بأنّ العلم بأسرار الربوبية من أعلى أنواع المعارف وأشرفها وأبهاها وأطيبها وألذّها وأشهاها بعد ما علمت أنّ لذّة العلم من أقوى اللذّات وأسناها ، فإن اللذّات تختلف نوعاً كالختلاف لذّة الوقاع مع لذّة الأكل ، ولذة السماع مع لذّة الرئاسة ، ولذّة الرئاسة مع لذّة المعرفة ، وكلّ نوع منها يختلف فيما تحته ضعفاً وقوّة ، كلذّة الشبق المغتلم من الجماع مع لذّة الشائب الفاتر الشهوة ، ولذّة النظر إلى الوجه البالغ في الجمال أقصاه بالنظر إلى مادونه ، والمعيار الكلّي في استعلام الأقوى من الأضعف اختيار المخيّر المتمكّن من كلّ منهما ، فإذا استمرّ اللاعب بالشطرنج على لعبه بعد حضور الطعام في وقته وترك الأكل علم أنّه عنده ألذّ منه وهكذا.
ثّم قد تبيّن لك سابقاً أنّ اللذّات الباطنة كالرئاسات والكرامات والعلوم أقوى من الظاهرة المستندة إلى الحسّ ، ولذا لايختارها عليها الا من كان خسيساً همّته ، ميّتاً قلبه ، ناقصاً عقله ، كالصبي والمجنون ، بل كلّما كمل العقل انتقل من لذّة ظاهرة إلى ماهو فوقها ، ولذا إنّ الصبي في أوّل حركته وتمييزه تظهر منه غريزة بها يستلذّ من اللهو واللعب ، وهما عنده من ألذّ الاشياء حينئذ ، ثم لبس الثياب والتزين وركوب الدوابّ حتى يستحقر معها اللهو واللعب ، ثم لذّة الوقاع حتّى يستحقر معها ما تقدّم ويتركها حين الوصول إليها ، ثم لذّة الرئاسة والتكاثر والعلوّ وهي آخر لذّات الدنيا من اللذّات الباطنية.