وانسدّت حينئذ أبواب الملائكة ، وامتلأت جوانبها من الظلمات ، وانطفت أنوار اليقين والايمان ، وصارت محلاً للوساوس الشيطانيّة أبداً ، ولم يبق حينئذ مجال لدخول الملائكة فيها.
وإن لم تحصل السلطنة والملكيّة التامّة المستقرّة لإحديهما ، بل كانت النفس مضماراً لمعركتهما ومحلاً لمنازعتهما فتارة تسوق العاقلة خصيميها وتطردهما فتخطر فيها خواطر الخير وتبعثها إليه ، وتارة بالعكس ، فتخطر فيها خاطر السوء وتدعوها إليه ، ولاتزال النفس متجاذبة من الطرفين إلى أن تصل إلى ما خلقت لأجله. (١)
لكنّك عرفت أن جند الشيطان أكثر ، وموافقة الطبيعة لها أظهر ، ومسالكه أسهل وأجلى ، فسلطنته سارية لناريّته ودوام حركته وطيرانه في دم الإنسان ولحمه ، ومحيطة بمجامع قلبه وبدنه ، ولذا قال :
( لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) (٢)
ولأجله ملكوا جلّ القلوب وفتحونها ، قلاعها ، وتمكّنوا في مساكنها ، وتوطّنوا في مواطنها ، وتصرفوا في حصونها ، فبعد ما صيّروا أبوابها بالغلبة مفتوحة لم يبق لأربابها عن وساوسهم مندوحة ، فلا منجى عنهم ولا مفزع منهم الا بالرياضة التامّة ، والمجاهدة العظيمة التي تحصل بها بصيرة مشرقة باطنية وقوّة قدسيّة ملكوتيّة على سدّ تلك الأبواب ، وفتح ذلك الباب بتأييد غيبيّ من المعين الوهّاب.
ثم لكلّ منهما أمارات ، كاليقين والهوى ، والتفكر في آيات الأنفس والآفاق على نظام يزيل الشك والشبهة ويحدث المعرفة والحكمة في القوّة
__________________
١ ـ لم يخلق الله نفساً لأجل الشر والسوء والشاء وإنّما خلقها الله مختارة وأعطاها ما به تختار الخير أو الشر من الحياة والقدرة والعلم وسائر ما تحتاج إليه في الوصول إلى القرب والسعادة ، فإن اختارت الشر حينئذ بسوء اختياره وصلت إلى ما اختياره وصلت إلى ما اختارت لا إلى ما خلقت لأجله « وما ربّك بظلّام للعبيد ».
٢ ـ الأعراف : ١٧.