وفي ذلك إشارة إلى أنّ العباد ينبغي أن يواصلوا مسيرة التوحيد إلى آخر العمر ولا ينحرفوا لحظة واحدة ، وهذا نظير تكرار الجملة : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) ، لدى المؤمنين ، حيث يطلبون فيها استمرار هذه النعمة إلى جانب الهداية ، على أيّة حال ، فإنّ الآية دليل على وجوب الهجرة من أرض الشرك وعبادة الأصنام إلى دار الإيمان ، إلّاأن يُوفَّق الإنسان لتغيير الأوضاع السائدة على تلك الأرض.
آية البحث هي من آيات سورة العنكبوت التي يقول عنها المفسّرون : إنّ الآيات الإحدى عشرة الاولى منها نزلت في المدينة بصدد الذين كانوا في مكّة وأظهروا الإسلام ولكنّهم لم يعزموا على الهجرة إلى المدينة ، والآية التي بعدها تقول : (كُلُّ نَفسٍ ذَائقَةُ المَوْتِ) وفيها إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ الجميع سيموتون وينفصلون عن الوطن والزوج والمال ، فلا تظنّوا أنّكم إن بقيتم في أجواء ملوّثة بالشرك فإنّكم سوف تبقون إلى جنب أحبّائكم أبداً (١).
* * *
وتستند الآية العاشرة إلى نقطة جديدة اخرى في هذا المجال ، وتعد المؤمنين جميعاً بأنّهم سيكونون مالكين وحكّاماً للأرض كلّها ، كما أنّ التوحيد سينتشر في العالم بأسره وسوف لن يعبد إلّاالله ، وعلى هذا فإنّها تبشّر بتوحيد العبادة الخالصة كبشارة كبرى لكلّ المؤمنين وتقول : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِم) ، وهناك بحث بين المفسّرين في تحديد ماهيّة هذه الطائفة التي ورثت الأرض وعاشت في عصور قديمة ، والمناسب أن يقال : إنّها إشارة إلى بني إسرائيل الذين أصبحوا ملوكاً وحكّاماً على مساحة واسعة من الأرض بعد نهضة موسى عليهالسلام وانهيار حكومة الفراعنة ، وكما يقول القرآن الكريم في قوله تعالى : (واورَثْنَا القَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الارضِ ومَغارِبَها الَّتِى بَارَكنَا فِيهَا) (٢). (الأعراف / ١٣٧)
__________________
(١) راجع تفسير روح البيان ؛ وروح المعاني ؛ والقرطبي في ذيل آية البحث.
(٢) هناك بحث مفصّل آخر في هذا المجال قد ورد في تفسير الأمثل ، ذيل الآية ٥٥ من سورة النور ، تحت عنوان ـ