من هنا فإنّ الآيتين أعلاه أقامتا برهان العلّة والمعلول في الآفاق والأنفس ، وعليه فإنّ الآية الثانية تشهد كذلك على أنّ الحديث يدور حول العلّة الفاعلية لا الغائية.
في الختام تشير هذه الآية إلى هذه الحقيقة وهي أنّ القضايا في هذا الصدد واضحة ، ولكن العيب هو أنّهم لا يستعدّون للإيمان واليقين : (بَل لا يوقِنُون).
أجل ، إنّ الحقّ بيّن ، بَيدَ أنّهم معاندون وأعداءٌ للحقّ.
وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تشابه ما ورد في قوله تعالى :
(وَفِى خَلقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِّقَومٍ يُوقِنُونَ). (الجاثية / ٤)
أو تشابه ما ورد في قوله تعالى : (وَفِى الأَرضِ آيَاتٌ لِّلمُوقِنِينَ). (الذاريات / ٢٠)
وواضح أنّ اولئك لو كانوا من الموقنين لما احتاجوا إلى الآيات ، وعليه فإنّ الحديث يدور حول الذين لا يقين لديهم ولكنّهم على استعداد لقبوله.
وذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ المقصود هو أنّ اولئك لا يقولون بأنّهم خلقوا السماوات والأرض ، بل يعتقدون بأنّ الله هو الخالق ، نظير ما جاء في قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأَرضَ لَيقُولُنَّ اللهُ) (١). (لقمان / ٢٥)
بيد أنّ هذا التفسير يبدو بعيداً.
والأضعف من هذا الاحتمال هو ما يقوله الذين يعتقدون أنّ معنى الآية هو : «أنّهم لا يقين لهم بما يقولون وهو أنّ الله خالق السماوات والأرض» وهو اليقين الذي يدعوهم إلى العبودية والطاعة.
ويتّضح خطأ هذا التفسير من أنّ الآيات هذه لم تطرح قضيّة خلق الله للسماوات والأرض ، فكيف يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إليها؟ (٢)
وأخيراً تقول الآية الثالثة كاستنتاج دون ذكر للاستدلال : (أَمْ لَهُم إِلهٌ غَيرُ اللهِ سُبحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
__________________
(١) أقرّ الزمخشري هذا التفسير في الكشّاف وقد احتمله الفخر الرازي في الكبير وجمع آخر من المفسّرين.
(٢) جاءت عبارة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَماواتِ والأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) في العنكبوت ، ٦١ ؛ الزمر ، ٣٨ ؛ الزخرف ، ٩ و ٨٧ ؛ لقمان ، ٢٥.