نزلت هذه الآية في أهل الصّفّة ، وهم فقراء المهاجرين الذين هاجروا مع رسول الله ، وتركوا مالهم في مكة ، وكان عددهم زهاء أربع مائة رجل ، ولم يكن لهم مأوى ، فكانوا يأكلون عند النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم يبيتون في المسجد تحت مكان مسقوف يقال له (الصفة) وكانوا متخصصين للجهاد وحفظ القرآن الكريم والخروج مع السرايا التي يرسلها النبي صلىاللهعليهوسلم ، فهم جنود الجيش وطلاب العلم.
ومن صفات المعطى لهم الصدقة : العجز عن العمل أو التجارة والكسب ، بسبب ضعف أو كبر أو ضرورة ، ومن صفاتهم التعفف ، فهم الذين يحسبهم الذي يجهل حالهم أغنياء من عفتهم وصبرهم وقناعتهم ، فعندهم عزة المؤمنين وتوكل المتوكلين. ومن صفاتهم وعلاماتهم : الضمور والنحول والضعف ، ورثاثة الثياب ، وهذا متروك لفراسة المؤمن ، فربّ فقير مظهره حسن ، وغني ذو ثياب رثة. ومن صفاتهم : عدم الإلحاح في السؤال ، فهم لا يسألون ولا يستجدون أصلا ، أو لا يسألون الناس ملحين أو ملحفين في المسألة ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم فيما رواه أحمد والنسائي : «لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرّة سوي» أي قادر على العمل.
ثم سوّى القرآن الكريم بين صدقة السر وصدقة العلانية في الأجر والثواب ، فقال الله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)) [البقرة : ٢ / ٢٧٤].
قال الكلبي : لما نزل قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ ...) [البقرة : ٢ / ٢٧٠] قالوا : يا رسول الله ، صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. فمن تصدق بشيء لله سرا أو علنا ، فله الأجر الكامل عند ربه الذي رباه وتعهده في بطن أمه وبعد ولادته ، ولا خوف عليه أصلا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا هو يحزن أبدا ، وهكذا كل من سار على نهج القرآن واهتدى بهديه ، فأولئك هم المفلحون.