عباس : قال كعب بن أسيد ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس : اذهبوا بنا إلى محمد ، لعلنا نفتنه عن دينه ، فجاءوه ، فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وأنا إن اتّبعناك اتّبعتنا يهود ، ولم يخالفونا ، وأن بيننا وبين قومنا خصومة ، فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن بك ، فأبى ذلك ، وأنزل الله فيهم : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ..) إلى آخر الآية وما بعدها وهي قوله : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
ومعنى الآيات الكريمات : وأنزلنا إليك أيها النّبي القرآن الكريم الذي أكملنا به الدين ، مشتملا أو متضمّنا الحقائق من الأمور ، وهي تمثل الحق في نفسه ، وصلاح العباد جميعا ، والقرآن مصدق ومؤيد ما تقدمه من الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل والزبور ، وهو أيضا مهيمن عليها ، أي حاكم عليها ، وشاهد لها وعليها ومبيّنا حقيقة ما جاء فيها وما طرأ عليها ، فهو أمين مؤتمن عليها.
وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته ، فاحكم يا محمد ومن جاء بعدك بما أنزل الله إليك فيه من الأحكام ، دون ما أنزله إليهم ، ولا تتبع أهواءهم ، أي آراءهم التي اصطلحوا عليها ، ولا تعدل عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء وشهوات أولئك الذين يريدون الميل عما أنزل إليك ، والعدول عن حكم الرجم والقصاص في القتلى.
فلكل أمة من الأمم جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها ، ومنهاجا وطريقا واضحا فرضنا عليهم سلوكه ، بحسب مراعاة الأحوال والأوضاع والتطورات ، وهذا كله في الأحكام الفرعية ، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم ، توحيد وإيمان بالبعث (اليوم الآخر) وتصديق للرّسل ، والله قادر على جعل الناس على ملّة واحدة أو دين واحد ، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة بحسب عصره وزمانه ، وأراد الله اختبار العالم فيما شرع لهم من الشرائع.