كالبدر أفرط فى العلو وضوءه |
للعصبة السارين جد قريب |
فإنه لما وصفه بنهاية البعد وهو معنى الشسوع وبالقرب ألحقه بما يظهر فيه الأمران ، ويظهر فيه حسنهما لمناسبة بين المحلين وهو البدر ، يظهر شرف شسوعه بإفراط علو البدر ، وشرف دنوه بوصول ضوئه للسارين ، وهذا الحسن إنما أدرك بعد التأمل فى البيتين ، وعرض ما فى الثانى على الأول ، ورد لاحقهما لسابقهما ليعرف مقتضى كل منهما فى الآخر ، وهكذا المعانى الشريفة يعضد بعضها بعضا ، ويلائم أولها آخرها ، فإذا كان سبب الحاجة إلى التأمل رد الآخر لما قبله وعرضه عليه لم يكن ذلك مما يخل بالفصاحة ، فإن الآى القرآنية فيها مناسبة دقيقة ، وليس طلب إدراكها مما يعاب أصلا ، إذ ليس من التعقيد ، وإن كانت تلك الحاجة بسبب سوء الترتيب فى اللفظ أو بسبب خلل فى الانتقال من الملزوم إلى اللازم كان من التعقيد المنهى عن ارتكابه ، فقد تبين بهذا أن الحاجة إلى التأمل فى رد السابق إلى اللاحق والثانى إلى الأول لحكمة إدراك حسن المناسبة مع صحة الترتيب ، أو لحكمة ما يترتب على المناسبة من أخذ هيئة لا تستقيم إلا بفهم تلك المعانى على ترتيبها وتناسبها ورد بعضها إلى بعض ـ ليست من العيب فى شيء ، وكذا لطف المعنى ودقته ، ومن المعلوم أن رعاية المناسبة من جزئيات دقة الإدراك ولو شرط فى الحسن انتفاء الدقة وانتفاء حسن الترتيب المحوج إلى التأمل ما تفاوتت البلغاء ، ومن الدليل على ذلك أنهم عدوا من محاسن الكلام ما فيه اللف والنشر ، مع الحاجة فى فهم المراد منه إلى التأمل فى رد اللاحق للسابق فيه ، ورد الثانى وما يجرى مجراه إلى الأول وما يجرى مجراه فيه ؛ إذ لا يفهم غالبا بلا تأمل ، لكن لما كان الترتيب فيه غير مختل حسن وعد من البديع الذى لا يخل بالفصاحة بل يزيدها حسنا كقوله :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا |
لدى وكرها العناب والحشف البالى (١) |
وقوله :
كيف أسلو وأنت حقف وغصن |
وغزال لحظا وقدّا وردفا |
__________________
(١) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص (٣٨) ، والإشارات ص (١٨٢) ، وعقود الجمان (٢ / ٢٥).