ولا أعظم شاهدا فى ذلك من قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(١) إلى غير ذلك ، وكثيرا ما تكل العرب المعنى إلى تأمل السامع ، فليس كل ما احتيج فيه إلى تأمل كان منهيا عنه ، فافهم.
ولما بين المصنف أن المبتذل هو الذى يكون ظاهر الوجه عند كل أحد ، وأن الغريب هو الذى لا يدركه ابتداء فى الغالب إلا الخواص ؛ أشار إلى أن الابتذال قد يتخلف عن ظهور الوجه فيصير التشبيه فيه غريبا لمانع هو وجود تصرف زائد فيه ، بأن يشترط فى تمام التشبيه وجود وصف لم يكن ، أو انتفاء وصف كان ، ولو كان ادعاء بشرط أن يكون ذلك على وجه دقيق فيصير بذلك التصرف مخصوص الإدراك بالخواص ، فيخرج عن معنى الابتذال إلى الغرابة ، فقال : (وقد يتصرف) فى التشبيه (القريب) المبتذل (بما) أى : بتصرف (يجعله) أى يجعل ذلك المبتذل (غريبا) خارجا عن الابتذال (كقوله (٢) :
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا |
إلا بوجه ليس فيه حياء |
فإن مضمون البيت أن وجه المحبوب المشار إليه لا يتصور من الشمس أن تلقاه بحيث يراها وتراه ـ لو كان لها عينان ـ إلا بانتفاء الحياء عنها ، وأما لو كان لها حياء لم تستطع أن تلقاه ، ففى هذا الكلام تنزيل الشمس منزلة من يرى ويستحى ، ولا شك أنه تقرر عرفا أن تغييب الإنسان وجهه عن وجه غيره حياء يكون لأحد أمرين إما لذنب عمله فاستحيا من الملاقاة خوف اللوم ، وإما لظهور قبحه بين أعين الناس عند رؤيتهم لوجه الحاضر ؛ لأنه لا مناسبة بينهما فى الحسن ، فيظهر وجه المستحى كالعورة بالنسبة إلى وجه المستحيا بين يديه ، فيقال : لا تلق فلانا إلا إن لم يكن فى وجهك حياء لإساءتك ، أو لظهور قبح وجهك عند الحاضرين بالنسبة لحسن وجهه ، والمعنى الأول هنا وهو الإساءة منتف فتعين الثانى وهو أن حسن وجه المحبوب فاق وجه الشمس المعلوم بالحسن ، وزاد عليه زيادة أوجبت كون وجه الشمس بين يديه وعند ظهوره
__________________
(١) القصص : ٧٣.
(٢) البيت للمتنبى فى الإيضاح ص (٢٣٨) ، وعقود الجمان (٢ / ٣٠).