وثانيهما العكس أعني : تسمية الجزء باسم الكل ولا يخفى ما في العبارة من التسامح ، لأن ظاهرها أن المجاز نفسه هو تسمية الشيء باسم الجزء ، وقد علمت أن المجاز هو اللفظ الذي كان للجزء وأطلق على الكل للملابسة ، ولكن لما كان سبب كونه مجازا معتبرا تسمية الكل به لكونه اسما لجزئه تجوز في جعل التسمية نفس المجاز ، فالأول وهو الذي صحة كونه مجازا إنما هي باعتبار كونه اسما للكل لكونه اسما لجزئه (كالعين) التي هي الجارحة المخصوصة في أصلها فإنها تستعمل مجازا مرسلا (في الربيئة) والربيئة : اسم الشخص الرقيب ، والعين جزء منه ، وقد أطلق اسم جزئه عليه ، ولكن لا يصح إطلاق كل اسم جزء على الكل وإنما يطلق اسم الجزء الذي له مزيد اختصاص بتحقق ما صار به ذلك الكل حاصلا بوصفه الخاص ، فإن الربيئة إنما تحقق كونه شخصا رقيبا بالعين ؛ إذ لولاها انتفت عنه الرقيبية ، فلذلك يقال فيه : يجب قتل العين واتخاذ الحذر منه ، ولا يقال : يقتل يد ، ولا يقتل رجل مرادا بهما الرقيب وقيل : إن الإسناد إلى العين لهذا المعنى من المجاز العقلي وإن جعل الكل ينسب إلى الجزء لكثرة الملابسة ؛ وفيه بعد.
(و) أما (عكسه) أي : عكس ما كان في تسمية الشيء باسم جزئه ؛ وهو ما كان في تسمية الجزء باسم الكل ف (كالأصابع) الموضوعة للأعضاء المعلومة ، فإنها تستعمل (في) أجزائها التي هي (الأنامل) مجازا مرسلا ، كقوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ)(١) أي : أنامل أصابعهم ، للعلم بأن جعل الأصابع بتمامها في الآذان غير واقع ، وقيل : إن هذا من باب نسبة الفعل الذي في نفس الأمر للكل لجزئه ، ولا يسمى مجازا ؛ كقولك : ضربت زيدا ، ومسحت بالمنديل ، فلا يكون مجازا ولو لم تضرب كلا ، ولا مسحت بالكل ، وفيه تعسف ؛ لأن نسبة مطلق الجعل إلى الأصابع كثيرا ما يراد به الكل ، فلو لا الآذان لجرى على الأصل. وأما نحو الضرب فلا يخلو من تصوره على الكل فجعل من باب الحقيقة ، وإلا لم يخل كلام عن مجاز غالبا ، وهو مذهب مردود ، ولا يخفى صحة الانتقال بعلاقة الجزئية والكلية.
__________________
(١) البقرة : ١٩.