شائبة الوضوح ؛ لأن أول ما يدرك في الغالب عند الالتفات إلى اللوازم ما يكون منها بلا واسطة ، إذ اللازم الملاصق للملزوم أظهر ، وإنما كانت الوسائط موجبة للبعد ؛ لأن الإدراك حينئذ يتوقف على إدراكات قبله ، وذلك مما ينسي اللزوم ، ولا يخفى غالبا من خفاء إدراك بعض الوسائط فمن أجل هذا مع بعد زمان الإدراك فيها سميت بعيدة ، وإنما قلنا : إن الشأن في كل منهما ما ذكر إشارة إلى أن كلا منهما قد يكون على خلاف ذلك ، فيمكن في المنتفية الوسائط الخفاء كما تقدم في عرض القفا ، وفي كثيرتها الوضوح ؛ لمرور الذهن بسرعة إلى المقصود ، إما مع إحضارها لظهورها ، وإما بدون الإحضار لكثرة الاستعمال حتى يسرع الانتقال ، ولا يقال : إذا أسرع بدون إحضار فلا واسطة ؛ لأنا نقول : يكفي في كون الكناية ذات وسائط وجودها في نفس الأمر مع إمكان إحضارها عرفا تأمل والله أعلم.
(والثالثة) من أقسام الكناية هي (المطلوب بها نسبة) والمراد بالنسبة كما هو العرف إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه ، وقد عبر المصنف في هذا المقام ـ كما يأتي وكذلك غيره ـ بالاختصاص ، وربما يتوهم من ذلك أن النسبة المطلوبة لا بد أن تكون على وجه الاختصاص الذي هو الحصر وليس كذلك ، وإنما المراد بالاختصاص مجرد ثبوت النسبة المقصودة سواء أريد إثباتها على وجه الحصر أم لا ، فقوله بعد : فترك التصريح بالاختصاص إلى الكناية مراده ترك التصريح بما يفيد مجرد الثبوت أو السلب سواء كان ذلك على وجه الحصر أم لا ، وليس المراد ترك التصريح بما يفيد الاختصاص الذي هو الحصر ؛ لأنه قد يكنى عن غير النسبة الحصرية ، وإنما عبر بالاختصاص عن مجرد الثبوت ، وإن كان مجرد الثبوت أعم ؛ لأن من ثبت له الشيء لا يخلو عن الاختصاص به في نفس الأمر ، ولو لم تقصد الدلالة عليه إذ لا بد من تحقق من ينتفي عنه ذلك الشيء في نفس الأمر ، ثم مثل للكناية المطلوب بها النسبة فقال (كقوله :
إن السماحة والمروءة والندى |
في قبة ضربت على ابن الحشرج (١) |
__________________
(١) البيت لزياد الأعجم ، في الطراز (١ / ٤٢٢) ، ونهاية الإيجاز ص (٢٧١) ، والإشارات ص (٢٤٥) ، والإيضاح ص (٢٧٨).