التنقية من الأثر المحسوس ، لكن كثر استعماله في المعاني حتى صار حقيقة عرفية ، فباعتبار الأصل يكون إطلاق الصبغ على معنى التنزيه عن رذيلة الكفر مجازا مرتبا على مجاز ، وباعتبار كثرة الاستعمال يكون مجازا محضا عن أصل ، فلفظ الصبغة إنما عبر به عن معنى التطهير على وجه التجوز ، ولا ينافي ذلك كونه مشاكلة باعتبار صحبته لما يعبر به عنه حقيقة أو مجازا كما تقدم ، والصحبة هنا تقديرية ؛ إذ لم يذكر لفظ الصبغة لمعنى آخر فيكون اللفظ المذكور للمشاكلة الذكرية.
ولما كانت الصحبة التقديرية تحتاج إلى ما يدل عليها أشار إلى ما يدل على المقدر ببيان أصل النزول المصحح لأصل هذا التعبير فقال (والأصل فيه) أي في نزول الآية المشتملة على التعبير بلفظ الصبغة ، أو الأصل في التعبير بلفظ الصبغة في الآية المنزلة ، ومآل الاحتمالين واحد (أن النصارى) أي : الأصل فيما ذكر أن النصارى (كانوا يغمسون أولادهم) أي يدخلونهم (في ماء أصفر) يوكل به القسيس منهم ، ويضع فيه الملح لئلا يتغير بطول الزمان فتغتر عامتهم بعدم التغير ، ويقولون : إن ذلك من بركة القسيس كما يغترون بإظهاره الزهد ، فجعلوا استغفاره موجبا للمغفرة ، وفوضوا إليه أمر النساء فيباشر أسرارهن إن شاء وهم راضون بذلك أخزى الله فعلهم.
(يسمونه) أي : يسمون ذلك الماء (المعمودية ، ويقولون : إنه) أي الغمس في ذلك الماء (تطهير لهم) من غير دينهم المحمود عندهم ـ لعنة الله عليهم ـ فإذا فعل ذلك أحدهم ، أي : غطس ولده في ذلك الماء بين يدي القسيس ، قال الآن صار نصرانيا حقا وتطهر من سائر الأديان ، ولما كان التغطيس إنما هو في الماء الأصفر الذي من شأنه أن يغير لون المغطس ناسب أن يسمى ذلك التغطيس بهيئة من الصبغ لكونه بماء مخصوص بصبغ لغرض مخصوص ، فكأنهم قالوا الصبغة بذلك الماء ، وإطلاق الصبغة المقدرة على التغطيس مجاز سواء أريد نفسه إذ لا يصبغ حقيقة ، أو أريد لازمه عندهم ، وهو التطهير من سائر الأديان ، وكذا التعبير بالصبغة عن التطهير بالإيمان مجاز وهو هيئة مخصوصة ؛ لكونه تطهيرا مخصوصا عن شيء مخصوص ، ولما كان هذا حالهم ونزلت الآية للرد عليهم في ذلك صار التعبير بالصبغة عن الإيمان الحقيقي للرد عليهم إيمانهم التغطيسي