أوصافه الحسنة بغاية ما يستقبح من الأوصاف بحال من له نخلات تثمر الحلو ، ثم انقلبت تثمر مرا في كون كل منهما له تبدل مما يستملح إلى الاتصاف بما يستقبح ، فاستعمل الكلام الذي يدل على الحالة الثانية في الحالة الأولى على وجه التمثيل (لم يزل سوء الظن يقتاده) أي : لما كان قبيحا في نفسه قاس الناس عليه ، فساء ظنا بهم في كل شيء ، فصار سوء الظن يقوده إلى مالا حاصل له في الخارج من التخيلات الفاسدة والتوهمات الباطلة (و) لم يزل (يصدق توهمه الذي يعتاده) يعنى : أنه لما كان يعتاد العمل القبيح من نفسه توهم أن الناس كذلك ، فصار يصدق ذلك التوهم الذي أصله ما اعتاد ، فلم يحصل بسبب ذلك إلا على الإثم والعداوة ؛ لأن أكثر الظن إثم ، ومعاملة الناس باعتقاده السوء عداوة.
وقد (حل) في هذا الكلام المسجع على ضرب من التجوز ، فحسن سبكه بذلك وطابق في إفادة المراد (قول أبي الطيب) المتنبي يشكو سيف الدولة ، وأنه استمع قول الأعادي فيه ، وأن سبب ذلك هو سوء فعله وإصراره على السوء للناس ، فظن أن الناس كذلك (إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه* وصدق) (١) أي : في الناس (ما يعتاده من توهم) أي : من أمر يتوهمه في الناس ؛ لاعتياد مثله في نفسه ، فإن من الكلام المشهور أن الإنسان لا يظن في الناس أن يفعلوا معه إلا ما يعتقد أن يفعل معهم ، ومن كلام العامة : إنما يظن الذئب ما يفعل ، فلو لم يحسن السبك كما لو قيل كما اشتهر على الألسن : أن الإنسان لا يظن إلا مثل فعله ، ومثل ذلك لم يقبل ولو لم يقع موقعه ، كما لو مدح به على الإطلاق ، وقيل : لا ينبغي للإنسان أن يظن بالناس إلا ما يقتضيه فعله واعتقاده بالقياس لم يقبل ؛ لأنه لم يطابق المعنى المسلم ، وإنما الممدوح سوء الظن في مواضع الحذر لا بالقياس مطلقا.
__________________
(١) انظر شرح عقود الجمان (٢ / ١٩١).