ما هنالك ، وكيف لا يكون الأمر أعظم من ذلك وكلام الله تعالى في الرتبة العليا من البلاغة والغاية القصوى من الفصاحة ، وقد أخرس البلغاء وأعجز الكمل من الفصحاء.
ولما كان هذا ـ أعنى كون فواتح السور وخواتمها ـ على أكمل الوجوه مما قد يخفى على بعض الأذهان لما في بعض الفواتح والخواتم من ذكر الأهوال ، والإفزاع ، وأحوال الكفار ، وأمثال ذلك ؛ كذكر الغضب والذم كما في قوله تعالى في الفاتحة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(١) وقوله تعالى (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ)(٢) وقوله تعالى في الخاتمة : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣) وقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)(٤) أشار إلى ما يزول به هذا الخفاء فقال (يظهر ذلك بالتأمل) في معاني الفواتح والخواتم (مع التذكر لما تقدم) من القواعد والأصول المذكورة في الفنون الثلاثة الدالة على وجه الحسن ، وأن لكل مقام خطابا يناسبه ، مثلا فاتحة سورة براءة لما نزلت للمنابذة إلى الكفار ومقاطعتهم ، بدئت بما يناسب ذلك من الأمر بقتالهم وعذابهم والنبذ إليهم وإسقاط عهدهم ، ولما انتهت إلى ما يناسب التحريض على اتباع الرسل قيل : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٥) فوصفه بما لا عذر لأحد يستمعه في ترك اتباعه ، ثم أمره بالاكتفاء بالله والتوكل عليه إن أعرضوا ، والاستغناء به عن كل شيء.
فهذه ألفاظ هي النهاية في الحسن ، ومعان هي القصوى في المطابقة ، وكذا الفاتحة لما نزلت لتعليم الدعاء بدئت بحمد المسئول ووصفه بالأوصاف العظام ؛ لأن ذلك أدعى للقبول وللتتجمع النفس عليه في السؤال ، ثم قيد المسئول بأنه هو الذي لا
__________________
(١) الحج : ١.
(٢) المعارج : ١.
(٣) الكوثر : ٣.
(٤) الفاتحة : ٧.
(٥) التوبة : ١٢٨.