العلم العقلى هو العلم الحسى غالبا ، ولهذا يقال : من فاته حس فإنه علم ، ويعنى علم ذلك الحس الفائت ، اللهم إلا أن يكون من عكس التشبيه مبالغة ، كما سيأتى ، بأن يجعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا بادعاء أن الفرع أقوى مبالغة والأصل أضعف ، وهذا المعنى موجود فى التشبيه كثيرا ، كما فى قوله فيما يأتى :
وبدا الصباح كأن غرته |
وجه الخليفة حين يمتدح (١) |
فإن وجه الخليفة أضعف فى نفس الأمر فى الضياء من الصباح ، ولكن جعل أقوى ادعاء مبالغة فى مدحه ، فجعل مشبها به.
قيل : ولقائل أن يقول : لا شك أن الإدراك العقلى مستند للإدراك الحسى فى غالب الأمر ، ولكن لا يلزم من ذلك كون المحسوس أقوى أبدا فى وجه الشبه ، وأشهر به ، وإنما يكون كذلك حيث يكون الوجه أصله الحسى ، ونحن نجوز أن يكون أصله العقلى فيكون العقلى به أشهر وأظهر ، فتشبيه العطر بالخلق مثلا فى استطابة النفس يكون من عكس التشبيه كما قيل لأن استطابة النفس للمشموم المحسوس أقرب من استطابة المعقول ؛ وإنما نثبت له الاستطابة من طريق التوهم والقياس على الحس ، وإنما تشبيهه به فى الشرف عند العقول وفى الارتفاع والتلذذ الروحانى فالخلق به أظهر وعلى هذا فلا حاجة إلى جعل تشبيه الحسى بالعقلى من عكس التشبيه دائما ، وهو ظاهر ، ولما جعل المشبهين محصورين فى العقلى والحسى حيث لم يذكر غيرهما أراد أن يبين أن ما يدرك بغير القوة العاقلة وبغير الحواس الخمس داخل فيهما كالخياليات والوهميات والوجدانيات ، ويأتى الآن ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان المراد بالخيالى والوهمى هنا لئلا يتوهم عدم الحصر فى التقسيم ، وأن يبين أن هذه لم تجعل أقساما على حدة ، بل أدخلت فى العقلى والحسى ؛ تقليلا للتقسيم ، وتسهيلا للضبط ، فقال :
__________________
(١) البيت لمحمد بن وهيب فى الإشارات ص (١٩١) ، والطيى فى شرح المشكاة (١ / ١٠٨) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي.