فرسم له أن يكون ابنه علاء الدين عليّ يدخل ويقرأ البريد ، فاعتذر بأنه صغير لا يقوم بالوظيفة. فقال السلطان أنا أربيه مثل ما أعرف ، فصار يخلف أباه كما كان شهاب الدين ، وانقطع شهاب الدين في منزله مدّة سنين إلى أن مات أبوه محيي الدين في يوم الأربعاء تاسع شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة ، عن ثلاث وتسعين سنة ، وهو متمتع بحواسه ، فدفن ظاهر القاهرة ثم نقل إلى تربتهم من سفح قاسيون بدمشق ، وكان صدرا معظما رزينا كامل السؤدد حركا كاتبا بارعا دبر الأقاليم بكفايته وحسن سياسته ، ووفور عقله وأمانته وشدّة تحرّزه ، وله النظم والنثر البديع الرايق فمن شعره :
تضاحكني ليلى فأحسب ثغرها |
|
سنا البرق لكن أين منه سنا البرق |
وأخفت نجوم الصبح حين تبسمت |
|
فقمت بفرعيها أشدّ على الشرق |
وقلت سواء جنح ليل وشعرها |
|
ولم أدر أنّ الصبح من جهة الفرق |
علاء الدين : علي بن يحيى بن فضل الله العمريّ ، استقل بوظيفة كتابة السرّ قبل موت أبيه محيي الدين ، وخلع عليه يوم الاثنين رابع شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ، وله من العمر أربع وعشرون سنة ، فخرج وفي خدمته الحاجب والدوادار ، وتقدّم أمر السلطان للموقعين بامتثال ما يأمرهم به عن السلطان ، فشق ذلك على أخيه شهاب الدين وحسده ، وربما قيل أنه سمّه ، فكان يعتريه دم منه إلى أن مات ، ثم إنه كتب قصة يسأل فيها السفر إلى الشام ، وشكا كثرة الكلفة ، وكان قبل ذلك جرى ذكره في مجلس السلطان فذمّه وتهدّده ، فعند ما قرئت عليه قصته تحرّك ما كان ساكنا من غضبه ، ورسم بإيقاع الحوطة عليه ، فحمل من داره إلى قاعة الصاحب من قلعة الجبل في رابع عشري شعبان سنة تسع وثلاثين ، وخرج إليه الأمير طاجار الدوادار ، وأمر به فعرّي من ثيابه ليضرب بالمقارع ، فرفق به ولم يضر به واستكتبه خطه بحمل عشرة آلاف ، فأحيط بداره وأخرج سائر ما وجد له وبيع عليه ، وأرسل مملوكه إلى بلاد الشام فباع كل ما له فيها ، واقترض خمسين ألف درهم حتى حمل من ذلك كله مائة وأربعين ألف درهم ، عنها سبعة آلاف دينار ، فسكن أمره وخف الطلب عنه وأقام إلى ثالث عشر ربيع الآخر سنة أربعين مدّة سبعة أشهر وثمانية عشر يوما ، ففرج الله عنه بأمر عجيب ، وهو أنّه لما كان يباشر عن أبيه وقع شخص من الكتاب بشيء زور ، فرسم السلطان بقطع يده ، فلم يزل شهاب الدين يتلطف في أمره حتى عفا السلطان عنه من قطع يده ، وأمر به فسجن طول هذه السنين إلى أن قدّر الله سبحانه أنه رفع قصة يسأل فيها العفو عنه ، فلما قرئت على السلطان لم يعرفه ، فسأل عن خبره وشأنه ، فقيل له لا يعرف خبر هذا إلا شهاب الدين بن فضل الله ، فبعث إليه بقاعة الصاحب يستخبره عنه ، فطالعه بقصته ، وما كان منه ، فألان الله له قلب السلطان ورسم بالإفراج عن الرجل وعن شهاب الدين وعن مملوكه ، ففرّج الله عن الثلاثة ، ونزل شهاب الدين إلى داره وأقام إلى أن قبض السلطان على الأمير تنكز نائب الشام ، فاستدعى شهاب الدين إلى حضرته وحلفه وولاه كتابة