يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ). ألم تر الخطاب للنبي (ص) بصيغة الاستفهام ، والمراد به التعجب من حال المنافقين الذين أبطنوا الكفر ، وأظهروا الإسلام والإيمان بالكتب السماوية ، ومحل التعجب انهم كذّبوا أنفسهم بأنفسهم ، حيث رفضوا التحاكم عند أهل الحق ، وانصرفوا عنهم الى أهل الباطل ، مع ان الإسلام يأمرهم بالابتعاد عن الضالين والمبطلين ، ولكن الواقع تغلب على التزييف والتمويه ، وأبطل ما كان يدعون.
قال صاحب مجمع البيان : تخاصم يهودي ومنافق من المسلمين ، فقال اليهودي : أحاكمك الى محمد ، لأنه علم ان محمدا (ص) لا يقبل الرشوة ، ولا يجوز في الحكم. فقال المنافق : بل بيني وبينك كعب الأشراف ـ يهودي ـ لأنه علم ان كعبا يأخذ الرشوة ، ويجور في الحكم.
ورغم علمنا بأن أكثر المفسرين لا يتثبتون في أسباب التنزيل ، وأنهم يتخذون من الحادثة سببا لنزولها ، رغم علمنا هذا فلا نرى مثالا يفسر المعنى المراد من الآية أوضح من هذه الحادثة التي ذكرها صاحب مجمع البيان .. رفض المنافق التحاكم الى الرسول (ص) ، لأنه يكفر به وبدينه ، أما اليهودي فانه يؤمن باليهودية ، ومع ذلك أبى التحاكم عند يهودي مثله ، وطلب التحاكم الى الرسول (ص) ، وهو كافر به وبدينه ، والسر هو المنفعة .. ولا تختص هذه الظاهرة باليهود ، فكل من نال خيرا من دين ، أو مبدأ فلا ينبغي الوثوق به ولا بدينه إلا بعد الابتلاء ، فان كثيرا من الناس يقبضون الألوف ، ويعيشون سعداء ، لا لشيء إلا لثقة الناس بإيمانهم وصلاحهم. وربما كانوا ممن ينطبق عليهم قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) ـ ١١ الحج».
وقال الإمام علي (ع) : الثناء بعد البلاء. وقال ولده الإمام الحسين (ع) : الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت عليه معايشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون. وكان الرسول الأعظم (ص) يقول في السراء : «الحمد لله المنعم المفضل ، ويقول في الضراء : الحمد لله على كل حال». يشير الى انه مؤمن بالله راض بما قدّر ، حتى في هذه الحال ، تماما كالولد البار ، يبقى على إخلاصه لوالده ، حتى في حال تأديبه له.