وهم قلة مستضعفون ، لأن حكمته تعالى اقتضت ان تجري الأمور على سننها وأسبابها ، وان لا ينتشر دينه بين الناس الا بالوسائل البشرية ، وان لا يفرض الدين عليهم فرضا بقدرته العلوية ، كما تفرض الأمطار والزوابع.
وحين جد الأمر بالقتال جزع وخاف الذين كان يأخذهم الحماس لقتال المشركين ، ويستعجلونه ، وهم في مكة ، حيث لم يكن مأذونا لهم بالقتال .. وهذا هو شأن الذين يندفعون مع العاطفة من غير تفكير وروية ، يشتدون ويتحمسون للنزال والقتال الى حد الهوس ، حيث يكون الإقدام تهورا وانتحارا ، ويتراجعون جزعا وانهيارا ، حيث تشتد الحاجة الى القتال ، ويكون حتما لا مناص منه.
وليس من الضروري ان يكون هؤلاء من المنافقين أو الشاكين في دينهم .. فقد يكونون منافقين ، وقد يكونون من الضعفاء الذين يخافون الموت ، ويؤثرون الحياة جبنا على الاستشهاد في سبيل الحق .. وقد تعرضت الآية التي نحن في صددها لهذا الفريق من المسلمين ، وحماسهم للقتال في مكة ، ثم خوفهم منه في المدينة .. ومهدنا بما تقدم قبل أن نشرع بتفسير الآية لتوضيح المراد منها.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). المراد ب (الذين) من استعجلوا القتال ، وتحمسوا له ، وهم في مكة. وقوله تعالى : قيل لهم الخ اشارة الى أن النبي (ص) كان قد أمرهم بالصبر والكف عن القتال ، والانصراف الى ما أمروا به من اقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لأن هذا هو الموقف الحكيم يوم كانوا في مكة.
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) ـ أي العدو ـ (كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً). المعنى انه لما توافرت أسباب القتال للمسلمين بعد ان هاجروا الى المدينة ، واشتدت اليه الحاجة أمروا به .. ولكن فريقا من الذين كانوا يستعجلون القتال في مكة ، حيث لم يفرض عليهم كرهوه بعد أن فرض عليهم حبا بالحياة ، وجبنا عن مقابلة العدو ، وخشية من نكاله .. وقوله تعالى : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) كناية عن ان الخوف بلغ بهم نهايته.