المعنى :
(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ). هذه الآية عطف على الآية التي قبلها ، وهي (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ). والليّ معناه عطف الشيء ورده عن الاستقامة الى الاعوجاج ، والمراد به هنا التحريف ، وقد سجل الله على أهل الكتاب انهم حرّفوا كلام الله وسجل ذلك عليهم في العديد من الآيات ، منها : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) ـ ٩١ الانعام» ، ومنها : (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ـ ٧٥ البقرة. ومن اطلع على التوراة جزم بأنها افتراء على الله ، حيث نسبت اليه تعالى الأكل والمصارعة ، كما نسبت الى الأنبياء السكر والخمر والزنا ببناتهم.
ثم ان التحريف يتحقق بالتطعيم والتقليم ، كأن يزاد في الكتاب ، أو يحذف منه ، وأيضا يتحقق بتحريف الحركات تحريفا يغير المعنى ، فيجعل الفاعل مفعولا ، والمفعول فاعلا ، وأيضا يتحقق التحريف بالتفسير ، فيفسر ـ مثلا ـ يد الله باليد الحقيقية ، لا باليد المجازية ، وهي القدرة.
واختلف المفسرون في نوع التحريف المراد بهذه الآية على أقوال ، وذهب الشيخ محمد عبده الى أن المراد بالتحريف هنا تحريف التفسير ، وإعطاء اللفظ معنى غير المعنى المراد منه ، وضرب مثلا على ذلك بلفظ (أبانا الذي في السماء) الذي جاء على لسان السيد المسيح فإن المراد منه رأفة الله ورحمته بعباده ، ولكن بعض الرؤوس فسّره بأن الله أب حقيقي لعيسى (ع).
والذي نميل اليه في تفسير هذه الآية ان ذاك الفريق من أهل الكتاب كان يلوك ألفاظا من عندياته ، ويخترعها من مخيلته ، ويوهم الناس انها من كتاب الله ، كي يعتقدوا بالباطل .. وعلى هذا يكون لفظ الكتاب الأول الوارد في الآية موصوفا بصفة محذوفة ، وهي المزعوم ، ولفظ الكتاب الثاني والثالث موصوفا بصفة محذوفة أيضا ، وهي الحقيقي ، والتقدير يلوون ألسنتهم بالكتاب المزعوم المحرّف لتحسبوا أيها الناس هذا المحرّف المزعوم من الكتاب الحقيقي الأصيل ، وما هو من الكتاب الأصيل في شيء.