وغيرها فيما سبق مرارا مع الشرح والتفسير ، وأعاد سبحانه ذكرها أو ذكر طرف منها هنا لمناسبة الاشارة في الآية الى الذين بدلوا نعمة الله كفرا. ويتلخص معنى هذه الآيات الثلاث بأن نعم الله وآلاءه لا تعد ولا تحصى ، منها خلق السموات والأرض ، وانزال الماء ، وتسخير الفلك والشمس والقمر والليل والنهار ، والإفضال على الناس بشيء مما سألوه ، وما لم يسألوه ومع ذلك يكفر الكثير منهم أو أكثرهم بأنعمه ، ويعبدون ما لا ينفعهم ولا يضرهم.
وبمناسبة قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) نشير الى ان علماء النفس اختلفوا في الإنسان : هل هو مجرم بطبعه ، وانه ولد ليعتدي على من لم يعتد عليه ، ويكفر بأنعم من أحسن اليه؟ .. وفي سنة ١٨٣٢ اجتمع في امريكا ٥٢٨ عالما من علماء النفس ، وناقشوا هذه القضية ، فذهب أكثرهم الى انه لا دليل على ان الإنسان لا مفر له من ارتكاب الجرائم. وخالف في ذلك جماعة منهم.
أما نحن فإنا نؤمن بأن الإنسان لم يولد مجرما ، والا سقط عنه التكليف ، وكان حسابه وعقابه ظلما وجورا ، والأديان والشرائع لغوا وعبثا ، حيث يكون ، والحال هذه ، كريشة في مهب الريح .. وانما يصير الإنسان مجرما بالعوامل الخارجية كالجوع الذي يحوله الى لص ، والمغريات التي تدفع به الى الخيانة والعمالة ، وما الى ذلك .. وهنا يقع التفاوت بين أفراد الناس في أنفسهم ، فبعض النفوس تضعف أمام المغريات ، وتتغلب عليها الشهوات ، كمن يملك الطعام ، ومع ذلك يطلب المزيد منه بكل وسيلة ، أو يزني وله زوجة تغنيه عن الحرام ، أو يكتم الحق أو يجحد النعم حرصا على جاه أو أية منفعة من متاع الدنيا ، وليس من شك ان هذا قد أذنب وأجرم بإرادته ، لا بطبيعته ، وهو المقصود بقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). ومن الواضح ان مجرد الميل الى الحرام لا يجعله حلالا ، ما دامت الفرصة سانحة للصبر والتغلب على هذا الميل. وتقدم ما يتصل بهذا البحث عند تفسير الآية ٩ من هود.