واستكشاف أسرار عالم الملكوت ، فإنّ المخالطة شاغلة للنفس عنها ، ولذا كان صلىاللهعليهوآله قبل البعثة منعزلاً إلى جبل حراء حتى قوي فيه نور النبوّة ، بحيث لم يحجيه الخلق عن الله ، بل كان ببدنه مع الخلق وقلبه مع الله ، ولا يقوى على الجمع بينهما الا النبوّة أو الوالاية الكاملة ، وهو إنّما يتيسّر بالاستغراق في حبّ الله تعالى وانسه ، فلا يبقى لغيره متّسع فيه ، وليس بمستنكر مع ما ترى في الخلق من المستهترين بالحبّ من يخالطهم ببدنه ، ولا يفهم ما يقول أو يقال له لفرط عشقه فأمر الآخرة أعظم عند أهلها.
قال اويس لبعض من جاءه زائراً : ما جاء بك؟ قال : الانس بك ، فقال : ما كنت أرى أحداً يعرف ربّه فيأنس بغيره.
وقال بعضهم : من لايأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قلّ علمه وعمي قلبه وضيّع عمره ففي العزلة والخلوة انس بالله واستكثار من معرفته منه.
وقيل :
وإنّي لأستنعس وما بي نعسة |
|
لعل خيالاً منك يلقى خياليا |
وأخرج من بين الجلوس لعلّني |
|
أحدث نفسي عنك بالسرّ خاليا |
ولذا قيل : إنّ وحشة النفس عن الخلوة لخلوّها عن الفضيلة ، والاستيناس بالناس من علامات الافلاس ، وهذه من أتمّ الفوائد وأعظمها ، لأنّ الغاية القصوى هي المحبّة والمعرفة ، ولا مطمع فيهما الا بدوام الذكر والفكر الغير الحاصلين الا مع الفراغ الغير الممكن بالمخالطة.
ومنها : الاستخلاص عن المعاصي المسبّبة من المخالطة كالرياء والغيبة والسكوت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنفاق ومسارقة الطبع من أخلاق أهل الدنيا وأعمالهم الخبيثة ، فإنّ الاحتراز عن الغيبة مع الاختلاط صعب لكونها عادة مستمرّة للناس يتفكّهون بها ويستلذّون منها ، فلو وافقتهم أثمت ولو سكت أو استمعت كنت منهم ، ولو أنكرت أبغضوك